ان اسم المكان والزمان من كلمةِ وَسَم هي مَوسِم إذ تعبرُ عن الزمانِ أو المكان أو كلاهما معاً وهي تعني اجتماعُ الشيء حوله وقد تكون الحفلُ والمعرضُ والتّجمهرُ والوقت الحائن، كموسمِ قطافِ العنب مثلاً فهنا أشيرَ بهِ لزمنِ جّني الثمر، أو أن نقولَ موسمُ الحج إذ يقترنُ فيهِ الزمانُ و المكان معاً، وإذا ما دققنا بالكثير من الأشياءِ التي تحيطُ بنا و نحيطُ بها فإنّنا نجدُ للموسمِ أثراً كبيراً بها، فللفاكهةِ مواسمٌ و لتكاثرِ الحيواناتِ مواسم ولهجرة الطيور مواسم و للحصادِ مواسم ولسفرِ الأسماكِ جماعاتٍ مواسم وهي تشقُّ بزعانفها عباب البحار بحثاً عن زمنٍ دافئ بمكانٍ وفير الغذاء قليلِ الافتراس ….
حتى الفيلسوف الإغريقي أرسطو درس و رصد موسم هجرة الطيور قبل ٣٠٠٠ عامٍ خلت باحثاً ممحصاً عن أسبابها و مكنوناتها والغرض منها، و خلُصَ بأن هجرةَ الطيورِ تخضعُ لقوانين فيزيائية بحتة يمكن أن يُستدلَّ منها عن موعدِ العاصفة و الكارثة و بوادر الغيث و اقتراب ولوجِ الشتاء…
ومن كلِ هذا و ذاك كان للأدبِ و الفنِ و الرسمِ و الشِعر و الحب مواسم، فكيف لا يكونُ للعشقِ مواسم و قد استلهم الشعراءُ من الفصولِ و من منازل القمر مواقيتاً للحبِ والغزل ولأجل هذا قال نزار قباني : جاءَ تشرينُ يا حبيبةُ عمري …. أحسنُ الوقتِ للهوى تشرينُ… فكان الخريفُ موسماً أمثل كي ينبضَ فؤادهُ بعذوبِ الكلامِ و أجمله، بينما رأى بعضُ الشعراء بأنَّ فصل الربيع هو الحاضن الأميز الذي يرتقي بالأحاسيس أيَّما ارتقاء حيثُ تهيجُ معهُ المشاعر و تتسامى فيهِ صنوفُ الخيال و يرتجفُ بهِ تامور القلب، كيفَ لا وهو الزمانُ الذي تدفئُ فيه الريحُ البارده و تزدان الأرض بجميل حليها و تصدحُ بأدواحهِ البلابلَ و تتسربلُ الأرضُ و الأشجارُ بمدهامِ خضارها ويكون لخريرِ الجدولِ ولصوتِ الثغاءِ بالمرعى و لصفاءِ السماءِ بالأعلى الأثر الأجدى للشاعرِ فيخرجُ وصفهُ ثراً غزيراً رقيقاً رقراقاً، و لأجل هذا قال إبراهيم ناجي :
جدّدي الحبَّ واذكري لي الربيعا…. إنني عشت للجمال تبيعا
أشتهي أن يلفَّني ورقُ الأيكِ…. وأثْوي خلف الزهورِ صريعا.
حتى ربيعُ البصرةِ الجميل ورغم حرارتهِ و شدَّةَ جفافهِ إلا أنَّ منظر بزوغِ القمرِ المنعكسِ على صفحاتِ شطِ العرب حيث ضوءهُ الناعمِ يرفلُ على أوجانِ ملتقى الرافدينِ فيكونُ هذا المنظر في هذا التوقيتُ البهيّ موسماً مثالياً لبدر شاكر السياب بأن يجترح عذبَ كلامه متغنيا بالحبِ بين ظهراني الربيع إذ يقول :
كأنَّ ابتسامتها والربيع شقيقتان لولا ذبول الزهر…
أآذارُ ينثر الورود على ثغرها أم شعاع القمر …..
فيكونُ ربيع آذار هو الموسم الرئيس له كيما يكتب أجمل قصائدة و أنضرها صفاء ….
أما فيما يخصّ الكتابة و الأدب فكان للأدباءِ مواسماً و مواقيتاً يبرعون بالكتابةِ فيها، فكان طه حسين مثلاً لا يرى في فصلِ الصيفِ ميقاتاً ينشطُ فيهِ ذهنه و يمرح به قلمه فيرى في الصيف فصلاً للهو و المرح و لا يجد سعةً في خياله بين جنباتِ هذا الفصل حتى يتباها قلمهُ اختيالاً بين أسطر الورق، وشاطرهُ هذا الاعتقاد الروائي نجيب محفوظ و الذي كان يتخذُ من الصيفِ موسماً لاستجماعِ الأفكار و استلهامِ الخيال فيجمعُ كل ذلك في دورقِ خيالهِ لينسجها كلاماً في رواياته التي كان يكتبها إبان فصلِ الصيف، بينما وجد جون كيتس في فصلِ الصيفِ موسماً تستقر فيه بواطن عقله عن الشتاتِ الذي يعتريها طوال العام فتدفأ مع حرارة الصيفِ أفكارهُ و خلجات نفسهِ لتنساب عبرَ كتاباتهِ حيثُ تزهو في هذا الفصلِ سرائرهُ و تصفى أحاسيسه و كأن الصيف قد أوحى له ما يكتب و ما يُبدع ليكون موسمه السنوي بالكتابه ….
في القرن التاسع عشر لوحظَ كذلك بأن عدداً من الرسّامين الروس قد اتخذوا من فصلِ الشتاء موسماً لهم للرسمِ والإبداع، ربما لطبيعة روسيا الشتوية دوراً كبيراً في ذلك حيث أن الثلج هو جزء من ثقافة الشعب الروسي كونهُ الزائر الأبرز لحياتهم طوالَ فصلِ الشتاء الطويل فيفترشُ السهول و المراعي و يكسو غاباتِ الصنوبر فيغدو كوشاحٍ أبيضٍ ناصع يتماهى مع لونِ عتمةِ الليلِ البهيمِ ومن فوقهِ النجومُ تتلألأ وتبرقُ بالأعلى و كأنها قينة أندلسية تتماوج طرباً برقصة الفلامنكو فيثير هذا المنظر خيال الشعراءِ و الرسامين أمثال إيفان شيشكين و إيفان بوخيتونوف صاحب لوحة ( تأثير الثلج) الجميلة كذلك الرسّام بيسيمسكي صاحب لوحة (حلم الشتاء) وغيرهم من المبدعين الذين اتخذوا من فصلِ الشتاء موسمهم المبَّجل لتفريغِ فنهم الجميل، كذلك المبدع نيكولاي غوغول وتحديداً في قصته (المعطف) والتي أبرز فيها دور صقيع و ثلجِ سانت بطرسبيرغ على أهواءِ و أمزجةِ سكانها ….
إن الفنان هو كتله من الأحاسيس اللامتناهية و رغم بساطتها إلا أنها معقدة ! وما يثير الفنان سواءً أكان مؤلفاً أو شاعراً أو نحاتاً أو رسّاماً هي مواطنُ الجمال ولكنها تكون متأرجحة في بوصلة غير مرئية داخل عقلهِ الباطن لا يعلمُ هو كيف ومتى و إلاما تشير، أعيشُ تماماً تأرجُحَ إبرةِ بوصلتي فلا أستطيعُ أن أكتب في كلِ وقتٍ وحين حتى لو أسدرتُ خيالي آناءَ هدوءِ الليل أو في صخبِ النهار محاولاً الكتابة فأراني لا أستطيع، بينما في وقتٍ ما بموسمٍ ما أجدُ الأفكار تثور بخيالي بعنف و تدعوني الآن أن أنظُمُها نثراً أو شعراً فأغادر بالحال مضجعي بعمقِ الليلِ السادر حتى أكتبها لأنها أيقظتني من نومي، ولربما أحياناً تأتيني و أنا في خِضَمِ انشغالي بعملي نهاراً فتجدها توقفُ كل أنشطتي حتى أحررها من قيودِ سلاسل عقلي، إن مواسمها شيئاً لا أدركه ولا أعرفه أهو ربيعاً أم خريفاً أم أنها ترتبطُ بمنازل القمر حقاً لا أعرف، و بما أنها غريبة فقد يكون موسمها غريباً أيضاً أو فصلاً لم أعشه و قد أكون قد عشتهُ في زمنٍ غابر .
التعليقات