إن الناظر لشجرة (الكونوكاربس) يرتاحُ كثيراً للونها ولخضرتها ولمنظرها الجميل، وقد يستلقي حذاءها ويستمتع بظلالها وهو يتأمل أشعة الشمس النافذةِ من خلال أوراقِ أغصانها، وإن أمعنا تخيل المشهد بشكلٍ دقيق، سنجد ربيعاً جميلاً، وشجرة كبيرة باذخة الجمال والخضرة وثمة مرجٌ أخضر بأسفلها وأصواتُ تغريد البلابل من كلِ حدبٍ وصوب تجيئُ وتغدو لأعشاشها فوق الشجرة .....
وإذا ما تخيلنا أكثر وأكثر بشكلٍ تفصيلي فلمَ لا نتخيلُ عراب السوداوية الكاتب الروسي (دوستويفسكي) وهو مستلقٍ تحت هذه الشجرة وقد اتكأ بظهره على جذعها، وبيدهِ القلم وعلى حِجرِهِ أوراق وهو يخطُ روايته الأشهر (الجريمة والعقاب)، وكعادةِ الكُتاب حينما يعصفُ بهم الخيال تراهم يطيلون بالتأمل، وحينما أطال (دوستويفسكي) التأمل بالشجرة قُدِحَ في خياله شخصية الرواية الأساسية (راسكولينكوف) المليئة بالغموض – مجرد خيال فقط- لكن ما علاقة هذا بذاك،شجرة وفيلسوفٌ يستظلُ تحتها و (راسكولينكوف) المجرم يختالُ بين أسطر الرواية فما هي الروابط بينهم.
......
ثمةَ راقٍ ذو علم، وهب علمهُ الغزير لرقي كل من مسهُ السحر ونالت منه طلاسمهُ الدنيئة، ومشعوذٍ دجال وهب علمهُ الشرير ليسدن معبد الشيطان ويغوي كل بائسٍ ومسكين ضاع منه مال ولربما ولد أو حتى بقرة كان يقتات من لبنها، فلم يجد سبيلاً لعودةِ ضالته سوى ذاك المشعوذ الذي كان يسوقُ لنفسه بين الناس بأنه وكيل الله على الأرض وقد أُرسل رحمةً لهم .....
لك أن تتخيل سلسلة من القصص عن ذاك الصراع الخفي والجلي ما بين الرجلين، سواءً بالعلن أو بالباطن، ولنا أن نقول بأن بقاء أياً من هذين الرجلين مرتبط بالآخر، هذا يُنشئ السِحرَ وذاك يبطله، هذا يدفن الطلسم وذاك يستخرجه.... وتماهت القرية ما بين هذين النقيضين، لهذا مريدون ولذلك أتباع وتدور رحى المعارك بينهما في أزقة القرية وفي مجالسها .... وتتبادل النسوة الحديث عن الراقي المبروك فتقول إحداهن وسط ثُلةٍ من النساء بأن ابنتها برئت من مسٍ طالها ورجعت لمنزل زوجها بعد أن هجرته بفعلِ سحرٍ خسيس قامت بهِ أخت زوجها، وفي زقاقٍ آخر تتفوهُ إحداهن وتقول لمن يحيط بها من النسوة بأن الشيخ الجليل الذي يسكن في كهفٍ يقع في جبلٍ على تخوم القرية قد صنع لها حجاباً أبعد أخاها عن زوجته الشريرة.... عشرات القصص المعلومة وغيرها أضعاف وأضعاف بقيت طي الكتمان ولم تظهر للعلن، جميعها تتحدث عن ساحرٍ مجرم فرق الأزواج وشتت العائلات وعن راقٍ تقي حارب كل هذه الظلاميات... لتنتهي القصة هنا منطقياً .....
في مدينةٍ ما في زمنٍ ما في بلدٍ ما ..... ألقت قوات الأمن القبض على أحدِ أشهر أطباءِ الإخصاب، الذي كان الحصول على موعدٍ معه بمثابةِ فوزٍ عظيم، بعدما نجح بإحياء الأمل عند المئات من العائلات التي تعذرت عن الإنجاب...... له الفضل الأعظم بأن تسمع الأم كلمة (ماما) لأول مرة بحياتها وعيناها تغرق بدموع الفرح الذي لا وصف له .... في عيادته عشرات الصور المنسدلة من جدرانها تظهرهُ وهو يحتفل مع عائلات أصرت أن تحتفل معه بعد الإنجاب وهو يحتضن أطفالهم وسيماء البراءة على وجوه الجميع بمن فيها هو، فالناظر لوجههِ يدرك كم هذا الإنسان عظيم وحنون، حتى أن بعض العائلات التي عالجها أسمت وليدها الذكر على اسم الطبيب تخليداً لذكراه ولمساهمته بأنه قد حقق لهم الحلم المنشود...
بعضُ الأهالي وحينما استحال عندهم الإنجاب لجؤوا للمشعوذين، ومنهم من ذهب لمشعوذٍ اشتهر اسمه بأحد القرى يسكن أحد الكهوف عرف عنه مقدرته على جعل العقيم ولوداً إلى أن اهتدوا لهذا الطبيب الخبير الذي حقق لهم المبتغى والرجاء ..... لكنه الآن خلف القضبان لأمرٍ دُبر له بليل وها هو ينتظر مصيره .... لتنتهي القصة هنا منطقياً.....
في مكانٍ ما في زمنٍ ما في بلدٍ ما..... ثمةَ شابٌ يافع يعملُ موظفاً إدارياً لدى أحد المؤسسات التي تعنى بشؤون الأطفال المشردين ومجهولي النسب الذين آلت بهم الظروف بأن يكون مأواهم الشارع ماسحين لزجاج السيارات أو باعة متجولين يقفزون على الطرقات أثناء احمرار إشارات المرور معرضين أنفسهم لخطر الموتِ والدهس كي يبيعوا المناديل وبعضاً من البسكوت، ولربما كانوا حمالين أشقياء في الأسواق يحملون على ظهورهم وظهورهن ضعف أوزانهم..... هذا الشاب المؤدب الرقيق صاحب القلب العطوف كان من الكشافين الميدانين الذين يبحثون عن هؤلاء الأطفال في أزقة وطرقات وأسواق المدينة، إذا نجح بعضهم بعدم الهرب منه كان يصحبهم للملجأ و يشرف على إعادة تأهيلهم للمجتمع، كان شديد التعلق بهم و سرعان ما كان يذرف الدموع الحزينة لرؤيتهم بتلك الحالة البائسة القميئة، كرمهُ عمدة المدينة عدة مرات بعدما ذاع صيتهُ بفضل الصحافة بسبب مساهماته الجبارة بإنهاء معاناة هؤلاء المشردين، حتى مُرتبه الشهري كان ينفقُ قرابةَ نصفة لأجل أن يبتاعَ لهم أشياءً تسعدُ أفئدتهم و تزيد من تلاحمه معهم ......
على النقيض وبنفس المدينة وعبر نصبِ كمينٍ استهلك أشهراً عدة استطاعت قوى الأمن الخاصة إلقاء القبض على شخصٍ أقل ما يقال عنه بأنه شيطان ولربما يمتعضُ الشيطان منه أو يتبرأ .... هذا الشخص اللعين استطاع التخفي عن رجال الأمن لسنواتٍ طوال إذ كان يعملُ مورداً لأعضاءِ الأطفال ، كذلك كان يورد رقيقاً أبيض لمن أراد أن يمارس الرذيلة مع هؤلاء الأطفال ثم قتلهم والتخلص من جثثهن، حتى أنه كان يحتفظ مراتٍ بتلك الجثث لأنه كان يعرف مشعوذاً ضال اشتهر اسمه بأحد القرى يسكن أحد الكهوف كان يطلب منه مرات دماء وأعضاء أطفال كقرابين يقدمها للمردة حينما يحُضر السحر اللعين ..... هنا انتهت تلك القصة مبدئياً! لكنهُ لم تنته معها آلاف القصصِ التي تجعلُ كبار الفلاسفة وعلماءِ السايكولوجي يقفون بذهول أمام هكذا شخصيات.....
عوداً على ذي بدئ لشجرة (الكونوكاربس) وللمجرم راسكولينكوف وللأبطال أعلاه، وحتى لا تصابَ بالملل فقد حانَ وقتُ التعريفِ بهم ...نعم! هي شجرة جميلة وخضيرة وحَسنةِ المنظر لكنها خبيثة جداً ثمارها ذات رائحة كريهة ويتجمع حولها البعوض والذباب وهي مأوى للزواحف الضارة مثل الثعابين، كما أنها تحتضن نوع من أنواع العناكب السامة، لك أن تتخيل كل هذا مصدرهُ شجرة جميلة تسر الناظرين .....
ما ذاكَ المشعوذ اللعين قاطن الكهف سوى عنكبوت سام قذر و ما غريمهُ الراقي إلا كونوكاربس، فيما بعد اتضح بأنّ كليهما شركاء، ذاك يسحر و ذاك يفكُ السحر و يعلم مدفنه، و عند سكون الليل بالقرية و حينما يخلدُ الجميعُ لفرشهم كانا يلتقيان بالكهف اللعين ليتبادلا ما جمعوه من مال و ليخططوا ما يفعلونه بالغد ...... حتى طبيب الإخصاب اللعين ما هو إلا كونوكاربس قذر، فحينما أُكتشف أمرُ المشعوذ تسارعت أحجار الدومينو بالسقوط ليسقطَ هذا الطبيب اللعين الذي كان يمارس القذارة بوضعِ نطافهِ في أرحامِ النساءِ البريئات عبر تقنية أطفال الأنابيب و لربما خلط الأنساب و تلاعب بمرضاه بكل إجرام ..... حتى ذاك الشيطان الذي قُبضَ عليه وهو يتاجر بأعضاءِ الأطفال المشردين ما هو إلا نفسهُ ذاك الشاب البريء الحنون الوديع الذي كرس حياته لإيواءِ هؤلاء البؤساء المساكين، غير عارفين بأن هذا الملاك الطاهر هو نفسهُ من يبيع أجسادهم وأعضاهم وعذريتهم ...... يا للهول! نحن نعيش وسط غابة من الكونوكاربس بين ملائكة بمنظرها العام لكنهم بالباطن شياطين مردة يعجزُ عن تبيان أفكارها أعتى علماء النفس.... عذراً راسكولينكوف لقد ظلمتكَ كثيراً، لتطمئن روحكَ الآن فإجرامكَ بالكاد لا يذكر أمام ذئاب بشرية تختال بيننا ولا نعرفُ أبداً متى وأين وكيف تتحول لكونوكاربس.
التعليقات