في جوفِ الليل البهيمِ حينما أنَسَ السكونُ المكان، وامتطى الهدوء وشاح الزمانِ، و عتمة الليلِ الوديع التي امتزجت بأُنسي القمر فأصبحت عتمتهُ لطيفةً للغاية وكيف السبيل لوصفها وقد بددها ضياءُ القمر فكانت لوحةً بحد ذاتها تأطرت خلف الطبيعة وسط غاباتِ الزيتون و ثمة نسائمٌ صيفيةٌ عليلة تهب بين ظهراني ذاك المكان الخلاب حيث شجت الأغصان فيما بينها فصنعت معزوفةً موسيقية رنيمة بالتوازي مع صوتِ خرير الجدول المحاذي للأشجار، فتماهى و تمازج الجميعُ فيما بينهم و كونوا جوقةَ عزفٍ لم تشاطرها يدُ عابثٍ فكانَ صوتُ حفيف الشجر المصاحب لخرير الجدول المنسدل من ظلمةِ الليل العتيم المتمازجِ بنورِ القمر كوّنوا جميعهم المستودعَ و المستقر لذاك اللقاءِ الخالد في ذلك الزمنِ القديمِ الغابر.
كان ينتظرها وحسب عند تلكَ العُدوة قرب الجدول، أما الزمان فهو (منزلُ القمر) عندما يعانقُ الثريا عند منتصف الأفق حينها يحينُ اللقاء.
صوتُ حثيثِ أقدامٍ من الخلف تصعدُ العدوة، لقد جاءت ببهي طلتها و حُسنِ محياها، سيماءُ الخوف تعتليها كونها تسللت من مخدعها لتسترق دقائق معدودةٍ و حسب كيما تودعهُ، أمسكَ يديها المخمليتين فسرى في جسدهِ تياراً ممزوجاً بين شجونٍ وفرح، شجونٍ كونهُ اللقاء الأخير قبل الهجرة و الفرح كونهُ معها الآن و كل شيء لم يعد مهماً على الأقل لأنها بقربه.
كيف السبيل ُ لعودتك لي وأنتَ مع بزوغِ الفجر ستمتطي الباخرة مهاجراً نحو الجنوب .... لربما يكون جسدي هو المغادر عن موطني لكن روحي لن تبرحه، لأنها ستبقى حتى تطوفَ فوق قريتنا الوديعة، فوق أسطحِ منازلها و أشجارها و عذوبِ جدولها و فوق تلكَ العدوةُ التي طالما احتضنت لقاءاتنا، ستبقى روحي هنا كي تناجيكِ آناء الليل و أطراف النهار.
ألا ليت أسرابَ الحمام الزاجل تستطيع الوصول لمكانكَ البعيد كي أرسل معها رسائلي فمن ذا يحملُ مرسال قلبي لكَ ليخبركَ أنني أنتظر عودتك؟؟ لا أحد ... لا أحد يستطع ذلك .... ثم أطرقت رأسها أسفاً و حزناً على كتفه و بمقلتيها الدموع.
سنتخاطر باستمرار صدقيني، انظري للأفق أترين هذه النجوم الجميلة- وكانت لم تزل طارقةً رأسها على كتفه الأيسر- انظري أسفل الأفق إنها نجمةُ (ألفا) إحدى نجماتِ كوكبة الصليب الجنوبي إنها الوحيدةُ التي تُرى من بين نجومِ الكوكبة الخمس في سماءِ قريتنا، لكنني حينما أكونُ في المهجر فإنني سأراهنّ جميعاً وسط الأفق، إنهنّ يبرقنَ بجمال، فحينما ينزل القمر في منزله هذا (و أشار بيده نحو الأفق) حينها انظري ملياً لتلك النجمة و خاطبيها، لأنكِ ستنظرينَ إليها قبلي بوقت، فتأمليها و أرسلي إليها رسائل قلبكِ العاشق و عندما يحينُ مسائي بعدكِ سأنظر إليها أيضاً كي تبثَ إليَّ رسائلكِ الوهاجة حينها فقط سيتسارعُ النبضُ بخافقكِ لتدركينَ أنني قد التقطها ..... هيا اقطعي لي وعداً بذلك بأن تنظري إليها في كل ليلة ...... نعم أعدكَ بذلك سأنظر إليها دائماً و سأسمعُ صوتكَ من خلالها و سأرى لحظَ عينيكَ فيها،ولكن عدْني بأنك ستعود لي عدْني .... سأفعل يا حبيبتي سأعودُ إليكِ ثقي بي سأفعل .... هيا علينا أن نغادر فقد أزف الوقت و لربما يُكتشَفُ أمرنا.
رغم تبدلِ الأنواء وتغير منازل القمر وتعاقب الزمن و مرور السنوات إلا أنهما ظلا يحدقان بكوكبة الصليب الجنوبي ما استطاعوا آناء كل ليلة رغم فرق التوقيت بينهما حتى يتخاطرا عبر وميضها و في قلبيهما من الشوقِ ما يكفي لاجتياز المحيطاتِ و البحار و كأنهُ جسرٌ عابرٌ واصلٌ ما بين خافقيهما... لا تثريبَ عليهما أبداً فقبلهما كم استعان الرحالة و الرعاةُ و البحارةُ و الشعراءُ بالنجوم فحددوا عبرها طريق مسيرهم و مكان وجهتهم ، فمن خلالها استطاعَ الإنسانُ الأول أن يعرف اتجاهه و لربما هابها حيناً من الدهر فعبدها إجلالاً لها و تقديساً... وفيها تغنى الشاعر و القاصُ و الأديب فاستعان بمحتوى الكونِ الفسيحِ كي يقتبس الجمال منها، و فيها سَبَكَ كلماته و نظم قصائده و أحسَنَ نثره ..... ومن أسمائها ما أطلقهُ على بنيهِ و بناته فسمى الثريا و الجوزاء و نجماً و قمراً ، إنّ ارتباط الإنسان بالنجومِ أزلي يعودُ للخليقةِ الأولى و كما استخدمها بوصفِ الجمال استخدمها حيناً بالشعوذةِ و الدجل، فمنها رأي الطالع و إدعاء معرفة القادم و من بروج النجوم استقرأ المستقبل و توقع الآتي، و كم كانت فرحة الإنسان حينما ارتقى بالنظر إليها من العين المجردة إلى التلسكوب و هذا ما فعله العالم الإيطالي (جاليلو) و الذي كان أول من وجه التلسكوب للسماء ليكتشف الكواكب عن قربٍ تلك الأجرام التي طالما شغلت تفكيره و أخذت حيزاً من تأملاته، فاكتشف المشتري و زحل و بعض أقمارهما حتى تم تسمية أحد أقمار المشتري باسمه (قمر جاليلو) تخليداً لإنجازه.
ومن وسطِ الصحراءِ و حذاء المحيطات و أطرافِ القطبين كم استعان بها الإنسان فعرف أين يسير فكان للنجومِ الدور الرئيس بإنقاذ التيهِ بأعماقه عندما تتشتتُ بداخله الاتجاهات و يفقد الإحساس بإحداثيات المكان لتكون له النجوم المنقذ و اليد الوحيدة التي تقبض على ساعده فتعبر به الطريق المزدحم بالضوضاء و الظلام و الخوف نحو شواطئ الأمل.
عبر الإنترنت و من خلال موقع جمعية الفلك العالمية تعرف هاويان فلكيان على بعضهما البعض شاب أرجنتيني من مدينة (روزاريو) و فتاة سورية من إحدى قرى (اللاذقية)، حيثُ جمعتهما هواية الفلك و رصد النجوم و متابعة الأبراج، كان الشاب حريصاً على أن يزور زميلته السورية في بلدتها فقد أبدى إعجابهُ بالمرصد الفلكي البسيط المتواضع الذي أنشأته في غرفة تقبعُ فوق سطحِ منزلهم، كان بها عدة تلسكوبات و قد وجهتها نحو السماء و كانت تدون ما تراه دائماً و تتبادل خبرتها مع الآخرين من خلال الموقع، كذلك الشاب قام بعمل مرصد أفضل حالاً من مرصدها في مدينته (روزاريو) و بإمكانيات أكبر من خلال التلسكوبات التي كان يمتلكها.
لقد اجتمعا في مرصدها لأنه أراد أن يرى موقع نجمة (ألفا) في سماءِ سوريا كيف تبدو، كذلك هي بالسابق كانت مهتمة كثيراً بهذه النجمة و دائماً ما كانت تجمع المعلومات عن كوكبة الصليب الجنوبي و المرئية بشكلٍ جلي في سماءِ الأرجنتين بينما في سوريا لا يرى غير نجمة واحدة من هذه الكوكبه، و في أثناء الاستراحة وهما يحتسيان مشروب (المتة) و بلحظة صفاء و أُنس تجرأ الشاب و اعترف لزميلته بأنه معجبٌ بها لا بل أنه يحبها و قال لها سأسر لكِ بأمر حتما ستستغربين لأجله .....
أنا أرجنتيني من أصول سورية و تحديداً من هذه البلدة فوالد جدي كان من ضمن جموع المهاجرين السوريين نحو القارة الجديدة حوالي عام 1887م و كان فيما مضى شغوفاً بالتحديق للسماء و رصد النجوم ... حتى أنني سمعت من والدي ذات مرة بأنه كان ينظر للسماء في كل ليلة من ليالي (روزاريو) و تحديداً لنجمة ألفا و بقية نجوم الكوكبة و يتلقى عبر وميضها أخبار حبيبته التي بقيت في هذه البلدة، وكان يرسل لها الجواب أيضاً و بقي على هذا الحال ردحاً من الدهر حتى خاطبته حبيبته يوماً عبر أثير النجمة و أخبرته بأنها أُجبرت على الزواج، حينها أصابه الإكتئاب الشديد و اعتزل الحياة وظل حبيس غرفته ينظر للنجوم كل ليلة ولم يعد يرى تألق نجمة (ألفا) البتة، وبعد أن تزوج بفترة بسيطة عثروا عليه ميتا تحت نافذة غرفته لقد مات حزناً و كمداً و هو يحدق بالسماء، و هذا هو سبب شغفي و اهتمامي بعلم الفلك إنها قصة والد جدي المهاجر.
لم تتمالك زميلته السورية نفسها إذ أمسكت كلتا يديه بقوة حتى أن كأس المتة سقط منه، و حدقت إليه بشده و قالت: لقد وعدتني حينما اجتمعنا معاً فوق الربوة على أن تعود لي لكنك لم تفعل، كنتُ أناجيكَ كل ليلة عبر نجمتنا و كنت أسمعُ ردك باليوم التالي إلى أن أجبرني أهلي على الزواج ولم أستطع مقاومتهم، لم تغب عن خيالي أبداً و في أحد الليالِ الصيفية و فيما كنتُ أحدق للسماء و أنا أتأملُ مرسول أنيننا لم أرَ نفسي إلا و قد صُرعتُ أرضاً وفارقتُ الحياة حزناً و كمداً ..... ها قد عدتَ إليا الآن بعد غيابٍ عتيق فلا تتركني ..…لن أفعل أبداً أبداً إني أعدك، ثم نظرا معاً نحو السماء و إذ بنجمة (ألفا) تتألق بشدة فلقد أنهت مهمتها واجتمعا أخيراً بعد رحلة عشق استمرت قرابة مئة و ثلاثين عاماً.
التعليقات