حينما تصطفُ الأرقام في علم الرياضيات ويبحث المرء عن رابطٍ يجمعها رغم اختلافها يتجلى له حينئذٍ القاسم المشترك كحبلٍ وثيقٍ يربطها بعضها البعض فتجتمعُ المئة مع رقم اثنين رغم بعد المسافة بينهما، كذلك الزمن والمكان والبشر وغيرهم، ثمةَ قواسم مشتركة خفية ولربما جلية تربط بينهم، فما القاسمُ المشترك إذاً بين سهولِ نيوزلندا بأقصى الأرض ومراعي سويسرا بقلبِ أوروبا سوى تلك الطبيعة الخلابة وقطعان الأغنامِ والماعز المنتشيةِ بين أجنابِ السهول الخضراء ….. وما الرابط الجامعُ بين عاشقٍ وجد بروحِ عشيقتهِ خيمةَ أمانٍ يلوذُ بها احتماءً من هجيرٍ الحياةِ الملتهب فتكون لهُ برداً وسلاماً … إنهُ رابِطُ الحب النقي الذي وجدَهُ بين أهدابِ حبيبته فكانت له الموئل والملاذ….. وما القاسمُ المشترك بين (ميرابو وراسبوتين) وأبي نواس وجميعهم من أممٍ وأعراقٍ مختلفة إذ أن المجون واتباعِ الشهوات هو ذاك الرابط المشترك بينهم.
عندئذٍ نبحثُ عن الرابطِ بين النمرود وفرعون وأبي جهل وبينه …. بينهُ من هو بحق السماء …. إنهُ ذلك المتفيقه الأعمى الذي انجرف خلف نزغاتِ شيطانه وسخر ثقافتهُ وواسع معرفتهِ لمحاربة الذات الإلهية، فأنكر وجودَ اللهِ، لا بل ساقهُ شيطانهُ لحربٍ ضروس يلحقها باتباعِ الله من رسلٍ ومبشرين ومنذرين ورعية ….. تحلقَ خلف برامجِ التواصلِ الاجتماعي وأخذَ يستخدم موهبةَ الإقناعِ التي عنده كي يخاطب ضعفاء العلم ومزعزعي الإيمان وصغارَ الشباب فيقنعهم بأن لا خالقَ للكون، وما الله إلا إلهٌ مزعوم صنعه الإنسان القديم الذي أوجدتهُ الطبيعة على الأرض فخاف من البركان ومن البحر الساجر ومن ضواري الغابات فاضطر وهو في كهفهِ المظلم أن يبتهل ويترجى قوى خفية تحميهِ من رعدٍ مجلجل ومطرٍ هتانٍ وعاصفةٍ هوجاء فأوجد ذاك الإله المزعوم.
ينحدرُ من أسرة بسيطة متدينة من أبٍ وأمٍ صالحين لكنهُ أرهقهما طغياناً وكفراً، رغم أن سويداء عقله الباطن لا يقتنعُ بما يقول لكن دائماً ما تأخذهُ العزةُ بالإثم ويزدادُ شراسةً في غيهِ وباطله بل يضلُّ من حوله ويُسخِّر فضاء الإنترنت الكبير لنشرِ سمومهِ الفتاكه، واستطاعَ أن يُكَوّن من حولهِ المريدين والأتباع ومن يؤمنون بنظرياتهِ وافتراءاته.
يوما ما تصدى لهُ فتىً يافعٌ عبر منصاتِ التواصل الاجتماعي وناظره بمنطقِ العالم العارف على مرأى ومسمعٍ من ملايين الناس فبانت أفكارهُ الإلحادية عارية أمام فتىً فتح الله على بصرهِ وبصيرته فحاججهُ بعلمٍ يضارعُ علمهُ فكانت الغلبةُ للفتى عدة مرات وحينما شعر الملحد أن بنيانه الهشَّ يتضعضعُ عند جرفٍ هارٍ أقفل باب النقاش وكعادة أي ملحد عندما ينحصر في زاوية ضيقة يعود ويقفزُ للمربع الأول وهوإنكار الله أصلاً ….. لقد أحس بأن أتباعه قد تزعزعت في أفئدتهم الثقة وبدؤوا ينفضون من حوله، هنا أحس بأن نجمهُ آخذٌ بالأفول وخاف أن يتحول لثقبٍ أسود فيلتهمهُ هووأفكاره للأبد، لذلك قرر أن يدخل بخلوة وينقطع لفترةٍ عن الناس جميعا حتى يعاود استجماع أفكاره ويعيدَ ترتيب بيتهِ الداخلي ثم يعودَ وبقوة أكثر.
قرر أن تكون خلوته في قرية اسمها (هامسي كوي) تنامُ في أحضان طبيعة منعزلة عن العالم في سفحِ جبل شاهق، لاشيء فيها سوى طبيعة خلابة وسحاب يعانق الجبل وسكان يسكنون الأكواخ لايكادون يستخدمون الكهرباء، هم بسطاء للغاية طعامهم من حقولِ أرضهم ولا شيء فيها سوى الهدوء الصخب - إن صح لي التعبير -.
مِن كل هذه القرية اختار كوخاً بعيداً منعزلاً بأعلى سفحِ الجبل يبعد كثيراً عن بقية منازل القرية تملكهُ سيدة عجوز أرملة هاجر أبناؤها للعمل في (اسطنبول ) بحثاً عن حياة أفضل بينما بقيت هي بقريتها لأنها مثل سمكِ (الهامسي) تموت خارج مائها، تزرعُ بضعة أمتارٍ مربعة فتقتاتُ منها وترعى بقرتين لتشرب من حليبها وتصنع منه حلوى (السوكلاش) لتبيعهُ للسُيَّاح القادمين صيفا لهذه القرية الجميلة جداً…. فتكون كالنملةِ التي تجمعُ قوتها صيفاً لتأكلهُ شتاءً.
دفع للسيدة العجوز أجرةَ أسبوعٍ رأى بأنها فترة كافيه ينفرد فيها مع ذاته وحيداً عن العالم أجمع، واشترى منها شيئاً من حليب بقرتيها وبعضَ منتجات حقلها،لم يكن بالكوخ إلا لمبتان اثنتان واحدة بالوسط وأخرى ببيت الخلاء وضوؤهما خافت جداً، وكان في الكوخِ سرير خشبي متهالك تنام فيه العجوز، حتى أن إرسال الهاتف المتحرك لا تصل إشارتهُ لموقع الكوخِ لأنه بأعلى سفحِ الجبل الشاهق، وبذلك يضمن بأن يكون وحيداً ومتجرداً من أي إزعاج، وفرصة للهروبِ من صخبِ وضوضاءِ الحياة.
غادرت العجوز الكوخَ عصر ذلك اليومِ وهي فرحه بتلك الليرات التي جنتها وذهبت للمكوثِ مع قريبةٍ لها بالقرية وتركت ذلك المغرور في خلوته حيث جلس خارج الكوخِ يتأمل الضباب الكثيف وهويتحلق السفح وحينما حل المساء ازدانت السماءُ بالنجومِ وبانت فيها أدق التفاصيل وتأمل هذا المنظر البديع وأخذ يحاور نفسه ويقول: لما لا أبدأ من الكون الوسيعِ هذا أيعقل أن يديره إله؟؟ بالطبعِ لا فكل هذه الشموسُ والمجرات المترامية الأطراف وجدت من العدم.
عندما حان وقت النوم أطفأَ ضوء المصباح الضعيف أصلا واستلقى على السرير وهومنتشٍ بأفكارٍ إلحادية مسك خيطها الأول، الهدوء مريب هنا لدرجةِ أنهُ كان يسمعُ صوتَ أنفاسهِ ونبض قلبهِ.
وحينما بدأ الكرى يغزوجسده سمع صوت حثيثِ مشيٍ آتٍ من الخارج، نهض من سريره والفزع يعتليه… من القادم نحوي ؟؟ !! لكنه آثر التزام الهدوء والمكوث على السرير كي لا يصدر أي همس …. لكن الصوت بدء يقترب أكثر وأكثر نحوباب الكوخ وهويقترب من الموتِ رعباً، إلى أن وصل هذا الشيء لباب الكوخِ.
كان يحدقُ نحوالباب وهومختبئ باللحاف وقد تجمد الدمُ في عروقه …. بعد ذلك بدأ الباب يطرق بطريقة غريبة ومتواترة (بم بم بم) سكوت ثم (بم بم بم) لنا أن نقول بأنهُ تسمر تماماً بمكانه وفغر فاه رعباً وقد جحظت عيناه لكنه حافظ على هدوئه الشديد …. بعد ذلك ذهب هذا الشيء من خلف الباب وابتعد لكن صاحبنا بقي مكانه متجمداً لا يقوى حتى على التنفس من شدة الخوف … ماهي إلا دقائق حتى عاد مجدداً صوت المشي بالخارج جهة باب الكوخ ليقف أمام الباب ويعاود الطرق من جديد ولكن بصوتٍ أعلى …. أخذ يتصبب عرقاً رغم برودة الطقس بهكذا مرتفع … وصل لمرحلة من الرعب لا توصف وعندما تشجع وقرر أن ينهض بهدوء من مكانه حتى يقترب أكثر من مصدر الطرق نظر لأسفل الباب الذي كان فارقاً عن الأرض قليلا ليرى ما كان خائفاً منه، كانت أرجل بها حوافر واضحة تماماً، هنا أيقن بأنَّ من في الخارج شيطانٌ أوأحدُ مردةِ الجنِّ ودون أي تفكير وكردة فعل أخذ يصرخ بكل قواه ويقول :( بسم الله الرحمن الرحيم …. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم … اللهم أنقذني يا الله بحق اسمك الكبير أنقذني يا الله تبت وأنبت إليك يا الله) يبدوأنَّ صوته العالي قد أفزع من كان بالخارج فذهب وابتعد مسرعاً، لكنه استمر بتلاوة صلواته دون توقف أوكلل وهولم يزل بمكانه يصرخُ خوفاً ورعباً… أحس بنوع من الطمأنينة رغم هول الموقف، وبقي كذلك حتى سمع من بعيد صوتَ أذان الفجر القادم من مسجد القرية فشعر براحة كبيرة جدا وأيقن أن الصبح آت …. هنا خر على الأرضِ بعدما خارت كل قواه وغط في نومٍ عميق.
بعد عدة ساعات أفاقَ من سباته بعد ليلة عصيبه جداً وضوء النهار يغزوالمكان وصوت العصافير بالخارج جميل للغاية وكل شيء قد تبدل عن البارحة، اكتشف بأنه قد بال على نفسه خوفاً دون أن يشعر تلك الليلة، استجمع قواه واستطاع أن يقف ويفتح الباب الذي أرعبه طارقهُ قبل ساعات …. أحس بأنه ولد من جديد بعدما تبخرت من رأسه كل أفكاره الإلحادية، لقد أحس بانهيار جبروتهِ وكبريائهِ تماماً، كان يمشي خارجاً وحسب لا يعلم أين يمشي حتى تراءت له من بعيد السيدة العجوز صاحبة المنزل وهي تحلب إحدى بقراتها، اتجه نحوها وهولا يكاد يستطيع النطق، ألقى عليها التحية وقال لها بأنه سيغادر الكوخ ولا يريد منها أن تعيد له ماله لا بل على العكس قال لها بأنه سيدفع لها أجرة أشهر الصيف كلها ولكنه سيرحل الآن.
طارت العجوز من الفرح ووثبت عليه وعانقته وطلبت منه أن يجلس حذاءَها ليشرب كوباً من الحليب الطازج، وافق على الفور وجلس، عندما شرب الحليب جاملها وقال : لم أذق طعماً أطيب من هذا الحليب، فقالت له : طبعا فهذا حليب بقرتي المدلـله جداً، إني أحبها كما أحب أولادي المهاجرين لإسطنبول، هي أنيستي وصديقتي، أتصدق يا هذا كل يوم بالهجيع الأخير من الليل تترك الحظيرة وتأتي نحوالكوخ ثم تطرق عليّ الباب برأسها، لقد اعتادت على فعل ذلك يوميا حتى أنهض من مكاني وأفتح لها الباب مرات تدخل للكوخ ومرات أخرج لها فأطعمها قليلاً وأربتُ على رأسها ثم تعود للحظيرة وأعود أنا لفراشي …. ألم تلاحظ أنني أحتفظ ببعض العلف داخل كوخي؟ …. إنه لأجلها …حينما تزورني ليلاً .. مُدللتي هذه.
أخذ يضحك بقوة شديدة حتى أدمعت عيناه وسقط من يده كوب الحليب، حتى العجوز استغربت من شدة ضحِكه فضحكت معه ليظهر ثغرها الأدرد، وانقلب على ظهرهِ من شدة الضحك فبانت له السماء الزرقاء الجميلة وهي ملبدة بالسحاب الأبيض حينها سكت عن الضحك وقال: تبارك الله أحسن الخالقين.
التعليقات