في زمنٍ ما غير محدد اكتشف ثلةٌ من العلماء بقعة زرقاء خافتة تسبح في أديمِ الفضاء، كانت زرقتها باهتة، هزيلة، أشبه ما تكون بامرأة كانت يوماً ما باذخة المُحيا لكنها الآن شنيعة الوجه بعدما غارت عيناها خلف تجاعيد وجهها و خفتَ ألقُ لحظيها و سكنت تماماً حتى عن الرؤية.
تجمع العلماءُ حول اكتشافهم الجديد و تدارسوهُ بتمحيصٍ بالغ و أجمعوا على ضرورة دراسةِ هذا الجرم السابح بكلِ حزن علّهم يستنبطون من كدرهِ ما يحمي كوكبهم من مصيرٍ مشابه.
كثفوا النظر إليهِ عبر تلسكوبات عملاقة و استطاعوا أن يحددوا عُمره و محيطهُ و قُطر كرته، فوجدوه مشابهاً لكوكبهم من حيث الشكل والخواص ….. ثمة تطابق كبير بين هذين الكوكبين في كل شيء تقريباً، بالتأكيد قد تظهر بعض الاختلافات لكنها بسيطة و ليست جوهرية.
حبذا لو استطعنا يوماً ما الوصول لهذا الكوكب أو حتى الهبوط على سطحه كي نعرف عنه أكثر، هذا ما تناجوا به فيما بينهم، يبدو أنه مليء بالأسرار و كأنه يدعونا للتواصل معه و كأنه يريد أن يخبرنا بأمرٍ هام فرغم شحوبه لكنه أحس بنا و هاهو يرسل بعضاً من وميضه نحونا كي يستدعينا إليه رغم البعد الهائل الفاصل بيننا…… هذا ما خلصَ إليهِ العلماء فدائماً ما كانت تشغلهم فكرة مخيفة جداً مفادها هل نحن بمفردنا في هذا الكون؟
بعد جهودٍ جبارة و عدة أجيال تعاقبت من هؤلاء العلماء و كل جيلٍ يدرس عصارة علم من سبقه استطاعوا ابتكار مسبار فضائي يسافر بسرعة عجيبة نحو الكوكب الحزين وعلى متنه ثلةُ من المستكشفين الذين خاطروا بحياتهم لأجل مهمة ستكتب في أسفار التاريخ.
لا يهم الزمن الذي استغرقهُ المستكشفون داخل المسبار للوصول إلى هدفهم المنشود لكنهم كانوا شديدي الحماس و تواقون جداً لمعرفة أسرارٍ طالما كانت عصيةً عليهم.
كانوا يقتربون منه رويداً رويداً إلى أن وصلوا لغلافه يا للهول ! ثمة أكسجين هنا مثل كوكبنا، نظروا أسفل منهم فشاهدوا بحار ساجرة غاضبة و براكين منطفئة ، آثار حممها ترى في كل مكان، طافو فوقه مراتٍ عدة و الدهشةُ أخرست حواسهم، كل شيء هنا مدمر ومن الواضح أنهُ لايوجد كائنات حية فلربما لم تظهر بعد أو أنها ماتت جميعا، لا شيء سوى الدمار، وعندما هبطوا الكوكب تغيرت فكرتهم تماماً، فمن الواضح و الجلي آثار دمار هائل أتى على كل شيء فلم يبقِ ولم يذر…. لا شيء يُسمع سوى عصف الريح الشديدة و صوت تلاطم الشطئان على الصخور الجبارة….. يبدو أن كارثةً ما أتت على هذا الكوكب فحولته أثراً بعد عين …..
مكثوا زمناً لا بأس به و هم يتنقلون بين أرجاء الكوكب والنتيجة ذاتها دمار هائل وآثار حياة انتهت منذ زمن، كان لدى المستكشفين أجهزة متطورة جداً أعطتهم إشارات عن وجود كائن حي على هذا الكوكب، على الفور انتقلوا لذلك المكان بالفعل ثمة كائن حي يعيش بمفرده يقتات على أوراق النباتات البسيطة التي نمت حوله، خاف كثيراً عندما رآهم لكنهم تعاملوا معه بكل رفق و لين، أطلقوا عليه لقب الناجي الوحيد، و بفضل علمهم المتقدم جدا استطاعوا التواصل معه عبر التحدث، بقوا معه ردحاً من الزمن استطاعوا من خلاله فهم تاريخ الكوكب بأسره.
وحينما حان موعد الرحيل شعر هذا الناجي بخواء كبير وحزن شديد كونه سيعود لوحدته فطلب منهم بأن يأخذوه معهم فقالوا له : نحن مجتمع منظم جداً لنا قوانيننا الصارمة التي يصعب التعايش معها، فقال لهم : بل خذوني معكم حتى أكون شاهد عيان لديكم، يبدو أنه قد أقنعهم، حسناً بإمكانك مرافقتن.
وحينما رجعوا إلى كوكبهم تحلق الجميع حول هذا المخلوق الفضائي الذي أحضرهُ المستكشفون معهم والمسمى الناجي الوحيد وهم يتفحصونه و ينهالون عليه بالأسئلة التي لا تنتهي، أما هو فسرعان ما اكتشف المجتمع الجديد الذي وفد إليه فوجده مجتمع مثالي جداً، الفرد في خدمة الجميع و الجميع في خدمة الفرد، لا شحناء لا تقاتل لا ضغينة لا تلوث لا فوضى لا فقر لا غِنى لا أمراض لا أوبئة لا حروب لا مكائد لا صراعات أثنية أو عرقية أو دينية لا تحزبات لا تكتلات لا تربص لا غدر … لنا أن نقول بأنه مجتمع عامل مترابط جدا لذلك كانت حضارتهم متقدمة جداً مساكنهم على عددهم، فقط يزرعون حاجتهم من الغذاء وحسب ويصنعون الشيء الذي يحتاجونه لا غير، فالكل يعمل ليكمل الآخر ولا يوجد لديهم عملات نقدية لذلك لم يكن عندهم أي صراع مادي فيما بينهم البتة، من المشاعر و الأحاسيس كانت لديهم مشاعر الحب و العاطفة و التسامح و التآخي، لا يعرفون الكراهية ولا الحقد و لا الانتقام لا يشعرون بهذه المشاعر أصلا وليست موجودة في قلوبهم.
في زمنٍ ما غير محدد أفنى الإنسان كوكب الأرض بالحروب و الدمار و التلوث والكراهية و الحقد الضغين بين بني البشر، إذ اندلعت حرب ضروس فنيت على إثرها البشرية وانقرضت كل صنوف الكائنات الحية و أصبح كوكب الأرض وحيداً حزينا هائما بالفضاء حيث خفتت زرقته و بات شاحباً كوجه امرأة عجوز أكلت التجاعيد وجهها الجميل، نجا من هذه الكارثة إنسان واحد فقط و أصبح الناجي الوحيد على الكوكب، عثرت عليه فيما بعد حضارة فضائية بعيدة واصطحبوه لكوكبهم ……. عاش معهم فترة وجيزة ثم مات لكنه استطاع خلال هذه الفترة أن يعلمهم على صنع السلاح و إبتكار المال و علمهم على التحزب و حبك الدسائس و المكر، نشر بينهم الغدر و زرع في قلوبهم الرعب، أوقد بينهم التفرقة والتشرذم فاندلعت أولى الحروب على كوكبهم، وفي الحرب علمهم احتكار الغذاء واصطفى بينهم نخبة أفسد أخلاقها كي يكونوا تجار أزمات جشعين جداً لايهمهم سوى الربح، أوجد لهم وباء فتاك و علم بعضاً منهم صنع الدواء له و احتكاره بينهم فقط، وأشنع ما صنع بأنهُ ادعى الألوهية حيث وقف على ربوة عالية وقال لهم: ما أريكم إلا ما أرى.
كان بإمكان الناجي الوحيد أن يحمي الكوكب الجديد الذي أتى إليه بعد أن دمر كوكبه، لكنهُ فضل أن يظهر الإنسان الذي داخله.
التعليقات