يبقى العقل البشري وما فيه من بواطن و بواعث أعقد ما يمكن البحثُ فيها ، تماماً كغورِ المحيط السحيق فكلما نزل الغطاس لأعماقه كلما اكتشف فيه أسراراً جديدة و ألغازاً أشد تعقيداً من أن تُحل فكيف لمخلوقات بدائية تعيش وسط ظلام دامس تحت ضغط مائي مهول أن تتغذى و تتكاثر وتفترس و تُفتَرس، كذلك العقل فكلما أُمعن البحثُ فيه كلما زادت تعقيداتُ فهمه، ومن أهمها هو آلية الحلم، بالتأكيد هي معقدة للغاية و مترعة بالكيمياء المحضة شديدة الغموض…….
إن صناعة الرؤيا أو الحلم أو الكابوس -أياً كان المسمى- صناعة شيقة و استدعت فضول الباحثين و الأطباء و الفلاسفة، لكن الأهم بكثير هو أن يكون هذا الحلم دليلاً قاطعاً لأمرٍ جلل، أو قبس هداية لعاصٍ أثيم، أو أن يكون مفتاحاً لمسألة استعصت على الحل، أو أن يكون الحلم رؤيا لعزيزٍ غيبهُ الموت فتجسدت صورته أو صوته في ثنايا العقل، و لربما يكون الحلم نواة إنشاء دولة أو مملكة حتى…. كل الاحتمالات مفتوحة لك أن تتخيل ما تشاء مما ينتج عن الحلم أو الرؤيا، حتى رجالات الدين قالوا ما قالوه عن الأحلام فإذا كانت خيراً عزوها للملائكة و إن كانت كابوساً عزوها للشيطان ……
لحظة -نقطة نظام- هل حقاً كانت المنامات نواة إنشاء دولة، قد يكون الطرح غريباً نوعا ما و لكن بالحقيقة نعم، فقد نشأت دول و إمبراطوريات عدة نتيجة حلم، لمجرد رؤيا يخرج القائد على رعيته و يعلنها دولة، هذا ما فعله ( عثمان أرطغرل ) حينما قص على أتباعه رؤيا راودته في منامه مفادها بأن الأرض قد دانت له وانضوت تحت راية سلطانه لتهب الرعية مكبرين من خلفة زاحفين نحو الأمصار معلنين قيام دولة بني عثمان، كذلك الشاه إسماعيل الصفوي حينما خلَدَ للنوم ذات ليلة فرأى في منامه أنه يدخل السرداب في سامراء ليلتقي بالإمام المهدي (الغائب) و يطلب منه الأخير و يوصيهُ بأن يعلن قيام دولته و هذا ما رواهُ لأتباعه حينما أفاق فلبى الجمعُ تلك الوصية وقامت دولة الصفوييون بسبب منامٍ عابر ……
أما في المجال الأدبي فأحياناً يلجأ المؤلف للهروب نحو الحلم كي ينهي حبكة استعصت على الحل وهذا العامل يضعف الرواية كثيراً فيلجأ النقاد لردح الرواية وإضعافها لأن الكاتب هرب إلى مساحة اللامعقول فبالحلم تنكسر كل القواعد فيظهر الأموات و يطير الشخص نحو السحاب و يتأرجح المرء بين الطفولة و الكهولة بلحظات، فيها يتحلل الكاتب من ضوابط عديدة ويصبح اللامباح له مباح كون لا قاعدة للحلم أبداً، فيلج لعالم افتراضي منعزل عن الواقع وفيه يكشف الجريمة بسرعة أو يعرف مكان الكنز المفقود أو يرجع للزمن الغابر أو يبحر للمستقبل المجهول …… لذلك كانت الأحلام في الرواية طوق نجاةٍ للكاتب تخرجه من تعقيدات كثيرها رسمها بالرواية و أصبح الخروج منها صعباً لذلك ما أسهله من حل أن يزجيها للامعقول و بذلك يرفع عن كاهله الحرج لأن المنام هو مساحة تنكسر فيها كل القوانين والمحظورات ولا تثريب على رائيها أبداً.....
حتى أن بعض الفقهاء استند في فتواه الشرعية على رؤية أتته بالمنام لأحد الصالحين أو الأئمة ولم يلقَ أي غضاضة بأن يعلن ذلك للملأ و هذا ما جعل الشيخ محمد حسين فضل الله يرفض أي فتوى تستند إلى الرؤيا و اعتبر ذلك هرطقة لا يجوز بناء الفتوى عليها، فبإغلاقه لهذا الباب يغلق على المدلسين و الكاذبين و الداعين لأنفسهم كرامات بالأصل ليست لهم ......
إذا ما فصلنا ما بين الهرطقة و الصدق و ميزنا بين المدلس الكاذب و الممتثل الصادق فإن الحلم بحد ذاته مساحة بغاية الجمال يعيشها الإنسان، فكم من أحلامٍ راودتك أثناء نومك وددتَ أن تكون حقيقة و تحسفت عليها حينما استيقظت، و كم من أحلامٍ أمسكت بيديكَ و أرشدتكَ لدربٍ لم تكن تراه تدعوكَ أن تسلكه كي تصل نحو المبتغى المطلوب، و كم من أحلامٍ ذهبت بك نحو عالمٍ لست فيه محروم ولا مكلوم ولا شقي بل كنتَ فيهِ حراً طليقاً غير مكبل بأصفادِ رتابة الحياة و روتينها البشع، و لكم رأيت مناماتٍ احتفظت بها في أديم خيالك ولم تبح بها لأحد لما فيها من جراءة حتى يصعبُ عليكَ سردها لأي أحد يكن فاحتفظت بها داخل أسوار عقلك و حينما تتذكرها أحياناً تشعر بالنصر و تخبأ في طيات هذا الشعور ابتسامة شريرة لأنك فعلت بالحلم مالم تستطع فعله بالحقيقة حتى لو مكثت ألف عام ولم يكلفك هذا سوى سرير متواضع و وسادة تحت رأسك ، و لأجل هذا قال المفكر الكبير عبدالرحمن منيف: (الحلم هو الشيء الوحيد الذي يستطيع الإنسان أن يمارسهُ دون رقابة أحد) فلن تؤثم ولن تلام ولن تزجر لما عشته في حلمك، لذا سيبقى الحلم هو المكان الوحيد الذي تعيش فيه دون ضوابط و دون قوانين و دون أعباء و دون رقابة و دون إملاءات و دون توجيه و دون تأنيب و دون توبيخ و دون تكفير و دون إزدراء و دون تنمر ، الحلم هو الشيء الصادق الوحيد بحياتك بنسبة 100% لأنك لم تُحضِر له ولم تستعِد له و لم تُجهِز له ولم ترصد له ولم تحسب له أي حسبان أتاكَ عابراً ، ثم أفل قد يُفرحك أو يُحزنك قد يُبهجك أو يرعبك لقد عبر و حسب و عليك أن تعيشه حينما تصحو إما مشرئباً و إما تعيساً .......
لذك قد يكون هذا الحلم هو الإنقاذ الحقيقي لذاتك بعدما سافرت نحو عالمٍ غير مُدرك، مبهمٍ رغم وضوحه الشديد معقد جداً رغم بساطته لكنه بالنهاية إنقاذ لنفسٍ أعياها المسير و أنهكتها متاريس الحياة.
التعليقات