- ماذا نفعل هنا، لقد تأخرنا أعدني حالاً إلى مكتبي، سأجري مكالمة هاتفية بغاية الضرورة مع القيادة العليا فثمةَ أمرٌ جلل يجب أن نناقشه هيا .. هيا أعدني من فضلك ...
- حسناً حسناً سأعيدك ولكن أرجوك استمتع الآن بهذا الهواء الطلق، واستمع لصدحِ البلابل فوق الأفنان، وتأمل هذه الأشجار التي من حولك، دعك من العمل ودعك من مشاغل الحياة ....
نعم يا لها من مناظر خلابه و ياله من نسيمٍ عليل، و لكن أنا أنتظر مكالمة هاتفية جداً مهمة و إذا ما اتصل سيادة الجنرال و لم يجدني فقد يغضب كثيراً هيا أرجوك أعدني للمكتب.....
لم تعرف الوحدات العسكرية انضباطاً شديد الدقة كما عرفته تحت قيادته، كان ضابطاً قائداً لإحدى الوحدات هذه وعُرفَ عنه الصرامة القوية وشدة البأس، في لحظة يصمتُ الجميع حتى لو تنفس أحدهم لكان صوتُ تنفسهِ مسموعاً ومزعجاً، وفي لحظة تزمجر جحافل الجنود وتزأر فيظن أن الصخب يُسمع حتى من الفضاء.....
بدأت ريح المساء الباردة بالظهور معلنةً اقتراب غروب الشمس، وبدأت العصافير تعودُ نحو أعشاشها بعد رحلةِ نهارٍ طويل، قام الرجل الأربعيني و أمسكَ يد الضابط كي ينهضه، كان الأمر سهلاً و بلا عناء فدائماً ما تكون أجسامُ العسكريين رياضية و مرنه، قال الضابط للرجل: لقد اقترب موعد العشاء على ما أعتقد، لقد أمرت الطاعمين بأن يكثروا الدهون في الطعام اتقاءً لبرودة الطقس و خاصة في المساء، و أمرتُ بتنويعِ الحساء الدافئ على موائد الجنود، لذلك أريدُ منك أن تتأكد بنفسك من ذلك ......
حسناً حسناً سأفعل و الآن هيا عجل بالمسير قبل حلول الليلِ السريع ....
في أثناء سيرها كان ثمةَ شاب يقود دراجة هوائية وبذات الوقت يتابع إحدى المباريات على هاتفه الجوال، لم يلحظ وجود هذين الشخصين أمامه في الطريق وفجأة اصطدم بفخذِ الضابط من الخلف و وقع من دراجته ....... آسف سيدي أستميحكَ عذراً اقبل تأسفي .... قف فوراً وقدم نفسك قبل أن أحيلك للتحقيق الأمني، رد الضابط بغضب وهو ينفضُ أثر التصادم عن بنطاله.... قل لي من أرسلك حتى تتبعني وتغتالني؟ أتظن بأني غافلٌ عن تربص الأعداء بي، هيا قدم نفسك ولأي جهاز مخابرات تعمل ....
وقف الشابُ فاغراً فاه من شدة الخوفِ وبدأ يتلعثمُ من رعبهِ وتشتت الكلامُ على شفتيه .... هنا ابتسمَ الرجلُ المرافق للضابط ورفع دراجة الشاب من الأرض وقال له حسناً يا بني بإمكانك أن تنصرف بسرعة وبالمراتِ القادمة انتبه لطريقك ..... أبداً لا أقبل كيفَ تدعهُ ينصرف يجب أن يحاكم مثلهُ مثل جميعِ الخونة، إنها محاولة اغتيال صريحة لي ...يا ولد توقف أين تذهب باسم القانون آمركَ أن تتوقف ....
بسببك تركتهَ يهرب لن أبرحَ مكاني حتى تصل فرق التحقيق إنهم يريدون قتلي فأنا مستهدف، حسناً حسناً سأرسل لهم مكان الحادث الآن، أخرجَ الرجل هاتفهُ و التقط صورة لمكان التصادم و قال للضابط: سأرسلها لهم حالاً و ستحضر فرق التحقيق لا تقلق و الآن دعنا نكمل مسيرنا .....
ما كان يتوجبُ عليكَ تركه، فالكثير من العملاءِ والخونة يتغلغلونَ بيننا، أعلمُ يقيناَ من يتربص بي ويحاول التخلص مني، فأعدائي من الداخل لا من الخارج يغارونَ من نجاحي وقيادتي أعرفهم جميعهم خونة..... أرجوك أريد أن أتحدث الآن مع القائد العام حتى أخبره فمن يدري فقد يكون هو المستهدف بعدي اتصل بهِ الآن فوراً ...... أووه هاتفهُ مغلق سأفعل ذلكَ لاحقاً، رد الرجل .... إذًا اتصل على ابني حالاً أريده أن يحتاط هو الآخر أرجوك اتصل به .... ألم تخبرني قبل ساعة بأن ابنك يعيشُ مع زوجته وأبنائهِ في المهجر ولم ترهُ منذ زمنٍ طويل .... بالحقيقة كنت أشتت أفكارك فالهاجسُ الأمني الذي أعيشهُ يحتمُ علي أن لا أعطيك الحقائق أبداً .....
ابتسمَ الرجل وقال: أووه إذًا كل ما قلتهُ لي محضُ افتراء، لقد قلت لي بأن ابنك يخافُ من زوجته ودائماً ما تمنعهٌ من القدومِ لزيارتنا.... قلتُ لكَ كنتُ أخادعكَ بالمعلومات فأنا أعلم يقيناً بأنك جاسوس تحاول أن تستدرجني بالكلام هل تظنني لم أكن أعلمُ ألاعيبكم، منذ قليل حاولوا اغتيالي وأنتَ متواطئ معهم والآن تريدون قتل ابني ولكن خسئت .... ثم هَمَ الضابط بالجري كي يهرب، لكن الرجل تدارك الأمر بسرعة وقبضهُ من كتفه وقال له: اهدأ ولا تثير الانتباه بالشارع، لست بجاسوس ولا هم يحزنون ..... كذابٌ أشِر، لقد انكشف أمرك .... اهدأ لطفاً ودعنا نكمل مسيرنا فقد حل المساء واقترب موعد قدوم الحافلة .....
هدأ الضابط قليلاً وتصنع برودَ الأعصاب فهو في قبضةِ الرجل فما كان عليهِ سوى الهدوء، وعندما صعدا الحافلة نظرَ الضابطُ نحو عشوائية الموقف وصرخ وقال: ما هذه الفوضى لماذا بعضكم واقف اجلسوا من فضلكم، الكل على مقعده، ثم نظر للرجل المرافق له وقال له، من هو الضابط المسؤول عن نقل الجنود والأفراد في الوحدة، أريده في مكتبي حالاً عندما نصل، ما هذا التسيب والفوضى غير المقبولة ...حسناً سأفعل ذلك والآن أرجوك دعنا نجلس فالجميع ينظر إلينا باستغراب ....
على بعد عدة كيلومترات قضاها الضابط وهو يتحدث مع الرجل ويكيل الوعيد والتهديد لكلِ المخالفين، فجأة نهض الرجل وقال للضابط هيا لقد وصلنا دعنا ننزل الآن ...ترجلا من الحافلة، فطافَ الضابط بنظرهِ حول المكان وقال: يا غبي أين أنزلتنا ليست بوابة الوحدة العسكرية، ثم صرخَ بأعلى صوته نحو الحافلة التي بدأت تختفي بالأفق ... توقف آمركَ أن تتوقف حالاً ..... هنا امتعض الرجل المرافق كثيراً وقال بنبرة فيها غضب وأسى وحزن، لقد أوصلتكَ للمنزل حتى تلبس بزتك العسكرية وتتهيأ وتضع مسدسك المذهب على خصرك حتى أوصلك للوحدة العسكرية ألم تقل لي بأنك تنتظر مكالمة ضرورية من القيادة العليا...أووه حقاً حقاً لقد نسيت بدأ يقهقه: تخيل نسيت أنني غير مرتدي لبزتي العسكرية...
وعندما دخلا المنزل وفي الممر حيث يوجد عدة صور تذكارية منسدلة على الحائط، صرخ الضابط وكأنه اكتشف شيئاً وقال للرجل: انظر انظر هذا هو سيادة القائد العام إنه يقلدني وسام عسكري رفيع، يجب أن أخبره بأنني أنقذت حياته من محاولة اغتيال، انظر يا هذا انظر إلى هؤلاء المجموعة العسكرية المنضبطة التي أرأسها، كم هم منضبطون، انظر هذا فلان إنه الضابط المساعد لي، شخصية عظيمة و أثق بهِ كثيراً ....
هاااا انظر تعال معي انظر لهذه الصورة هذا هو ابني الذي حدثتك عنه انظر كم هو وسيم، لكن للأسف غادرني ولم يعد يسأل عني كل هذا بسبب زوجته وا أسفاه، وأطرق رأسه للأرض...
تمام تمام هيا يا أبي عليك أن تستخدم الحمام فقد مكثنا مطولا بالخارج و دعني أنظف لك يديك و ألبسك ثيابك حتى نتناول العشاء....
وبعد أن أدخل الرجل الضابط لغرفته وألبسه ثياب المنزل، دخل للمطبخ فوجد زوجته تحضر الطعام، نظرت إليه مبتسمة وقالت: أقرأ من تعابير وجهك بأنه أتعبك في هذا المشوار .... أووه ليس موضوع تعب ولكني أشفِق عليهِ كثيراً فقد أصبح ينسى كل شيء، مع أنه قص لي قصص تعود لخمسين سنة للوراء عن حياته العسكرية وعن سنوات الحرب وبالمقابل لم يتذكر بأنني ابنه، تخيلي بأنه كان يظنني جاسوس طوال الوقت، وبالحافلة أخذ يصرخ على الركاب ظنهم عسكريين، وبالحديقة تجادل مع شاب صغير فقد ظنَ أنه سيغتاله.... هنا تقدمت الزوجة نحو زوجها وحضنته وقالت له: لا تُضع أجركَ بهذا الإمتعاض لقد تجاوز الخامسة و الثمانين من عمره، للأسف داهمه الزهايمر مبكراً، هيا دعنا نتهيأ لتناول العشاء سأنادي على الأولاد و أنت أحضر والدك كي نجلس جميعنا على المائدة.
التعليقات