دائماً ما تدعم الأحداث التي تُعاصر الزمن أسفار التاريخ حينما يُكتب، فثمة مرويات أو قصص يناط لها الدور الرئيس بتثبيت وقائع التاريخ، لأنها صادرة من عُمقِ الحقيقة، عادةً ما تكون عفوية، محكية كما هي حتى لو بلهجتها المحلية، فلم ينلها تحريف أو يعتليها تزوير، هي كما هي..
ألو ....
مرحبا.... أتسمعونني جيداً؟ معي بضع ثواني لا أكثر، بس حابب أطمنكم وصلنا أمس بالليل لألمانيا لمدينة اسمها (دريزيدن) والحمدلله وضعونا بكمبات اللاجئين وسجلنا أسماءنا ....
أنا وثريا بخير والولدان كمان، بس الخبر المزعج هو (خالد) وعائلته انمسكو بالمجر و أم خالد ما تحملت البرد وللأسف ماتت بالغابة أثناء الهروب - بتعرف امرأة ختيارة ما تحملت - وهاد السبب يلي أخرهن عن الجماعة لذلك مسكهن البوليس المجري وهذا آخر علمي فيهم .... أنا مضطر أنهي المكالمة .... ادعولنا كتير ....
( ريما) شابة اقتربت لتكمل عامها الرابع والثلاثين ، دعني استخدم كلمة ( كانت) كثيراً فقد بحثت عن كلمة مرادفة ولم أجدها ....
- كانت متزوجة وكانت لها طفلة بعمر سبع سنوات
- كانت تعمل موظفة حكومية
- كانت جميلة
- كانت تملك منزلا محترما ببلدها
- كانت إنسان ..... نعم كانت إنسان لكنها تحولت لكل شيء ما عدى مسمى إنسان ، دعنا نقول بأنها مجرد كائن حي مكلوم وفاقد لكل إحساس أو شعور ....
ها هي ريما تلتقط هاتفها وتكتب لصديقتها المحادثة التالية :
نوال مساء الخير، اليوم أكمِل أسبوعا لي بالكامب، حطونا بمدينة اسمها (توملينغن) الكامب عبارة عن صالة رياضية خصصت للاجئين، وقسموها لغرف، نحن بالغرفة ثلاث لاجئات من جنسيات مختلفة، المهم حابه أخبرك شي مهم قبل ما تهاجري، المهرب (فرهاد) شخص وضيع وكذاب لقد سرق كل فلوسنا وتركنا في هنغاريا وحيدين وحاول يتحرش ببعض البنات، لولا ألطاف الله ما وصلنا سالمين، المهم ديري بالك على حالك لما تقرروا تطلعوا بالمراكب لا تثقوا بأي مهرب، سلام...
هل أفسر الآن كلمة (كانت) فأقول بأن ريما كانت متزوجة وأم لأنها ببساطة فقدت زوجها وطفلتها حينما سقطت قذيفة على منزلها و تدمر بالكامل وقُتل على إثر ذاك زوجها وطفلتها ونجت هي بإعجوبة وبقيت تحت الأنقاض ردحاً من الزمن بعدما فقدت عينها اليسرى واحترق جزء من وجهها وفقدت ثلاث أصابع من قدمها ولم يعد لمسحوق التجميل أي دور بإعادة الرونق الجميل لمحياها ، كذلك ما الفائدة من تلوين أظافر رجليها بعدما فقدت جزءاً من أصابعها....
إنها تعيش مرحلة التيه والضياع بعدما مات الإنسان بداخلها فأصبحت مجرد هشيم تذروه الرياح لكل بعيد وصارت نفساً ميتةً لكنها داخل جسدٍ حيٍّ…
أثناء تسجيل الأسماء بمركز ( ميونخ ) للاجئين وقفت الموظفة الألمانية مدام ( إيفا) حائرة ، فطلبت من المترجم العربي أن ينادي على الشاب الواقف هناك الذي يرتدي معطفا أزرق ....
عفواً فراو ( إيفا) تسأل بأنك قلت لنا إن اسمك ( ديفد) وتقرير الشرطة الألمانية بعد التحري عنك يقول إن اسمك غير ذلك هل من الممكن أن تفسر لنا هذا الخطأ من فضلك ...
- المعذرة لا يوجد أي خطأ، أنا اسمي ديفد
- ولكن هذا مغاير لتقرير الشرطة الألمانية فالمجموعة التي وصلت معك تقول إن اسمك ( عمار)
- هذا فيما مضى وباعتباري لا أملك وثائق لأني فقدتها كلها فأنا قررت أن يكون اسمي ( ديفد) ... اكتبوه ( ديفد ) وحسب ...
بعد تحدث المترجم مع الموظفة لبضع دقائق رد المترجم عليه وقال : حسناً فراو ( إيفا) تقول بأنها ستناقش الأمر مع مرؤوسيها وسنخبرك بالقرار لاحقاً ......
وبعدما انصرفت الموظفة نحو عائلة أخرى بذات المخيم أمسك المترجم يد ( ديفد) بقوة وشدها بعنف وقال له بغضب : قف لا تذهب أود الحديث معك ....
- هل تظن بأن هذا ذكاء منك أن تُغير ماضيك ، هل تعتقد بأن السلطات هنا ستتعاطف معك لمجرد أنك غيرت اسمك.
- عفوا سيدي المترجم هلا تركت يدي ، عنفك هذا لن يغير قراري.
- اخرس يا منافق …واهمٌ أنت إن اعتقدت أن هذا سيعجل من قبول طلب لجوئك ، ليتك غرقت بالبحر أثناء هربك حتى لا أرى أمثالك....
نظر ديفد للمترجم ببرود ثم التقط سيجارة من جيب معطفه الأزرق وأشعلها ثم أجاب ....
- أنت إنسان مستقر تلبس ربطة عنق جميلة وتملك وظيفة مرموقة ، بالتأكيد سينتهي دوامك بعد قليل لتذهب بعد ذاك لمنزلك حتى تتعشى مع أسرتك بعدها ستلعب قليلاً مع أولادك حتى يحين موعد نومهم ، فتودعهم و تقبلهم ثم تسوقهم نحو فراشهم ، وبعد خلودهم للنوم ستتأملهم أنت و زوجتك و بريق أعينكم يفيضُ حباً و حنانا نحوهم و هم نائمون ....الذي أمامك كان مثلك تماماً قبل سنتين ولما اندلعت الحرب ببلدي لسبب تافه جدا فقدت عملي وفقدت أموالي وكي أنجو برأسي قررت الهرب نحو أوربا رحلة مهلكة حيث وقعنا بمافيا التهريب القذرة ، وبليلة باردة جدا ركبنا أكثر من خمسين شخص بمركب مطاطي متهالك يسمونه (البالم) ومعي زوجتي وأولادي وطبعا قبل أن نصل السواحل الأوربية تم إطلاق النار علينا من جهة مجهولة فغرق المركب بمن فيه....أولادي من شدة البرد ماتو بالبحر ولما وصل خفر السواحل كان معظم الركاب قد هلكوا.... أنقذوني أنا وزوجتي وكانت فاقدة الوعي وعندما أفاقت من غيبوبتها بالمستشفى بعد أيام عرفت بموت أولادنا فانتحرت بنفس اليوم .... وبقيت أنا وحيدا وخلفي قصة لأجلها تستنفر السماءُ والأرض... عفوا سيدي المترجم هل سبق أن مات ولدان بين يديك وأنت تسبح بالظلام الدامس والبرد القارص وقبل موتهم بثوانٍ همس أحدهم بإذنك وقال لك : بابا أنا بحبك كتير بس بردان كتير كتير ......
سيدي المترجم لربما إن غيرت هويتي أكون قد تخلصت من إرث تاريخ قديم لم يتبقَ لي منه سوى قصص شجاعة عنترة وكرم حاتم وحكمة إياس وفصاحة قس بن ساعدة ..... سيدي المترجم هل فهمتني أم أشرح لك أكثر ....
بعد ذلك قذف الشاب بعقب سيجارته الأرض ثم سحقها بقدمه وانصرف عنهُ تاركاً المترجم فاغراً فاهُ والدمعُ يتراقص داخل حدقيه لهولِ ما سمع .....
بأحد المقاهي الجميلة بمدينة (ريغنسبورغ) ثمة حانة تطل على (نهر الدانوب) تقع في زاوية عتيمة منعزلة بأطرافِ المدينة ، عادةً ما يجتمعُ فيها تجار الرقيق الأبيض(اللاجئين)، في هذه الحانة لك أن تتخيل فيها شتى أنواع الرذائل أقساها و أفظعها عندما يتحاسب التُجار فيما بينهم إذ يُخال لك حينذاك بأن الشيطان يقفُ أمامهم مذهولا…..
كانوا يتقاسمون البشر كأي سلعة، وقتذاك تجادل اثنان فيما بينهم إذ قال الأول لصاحبه : لقد كثر عدد الموتى من الهاربين في مراكبك ألا تخشى أن يقل زبائنك … رد عليهِ بكل برودٍ وقال: أتلقى أموالاً على عدد الأمواتِ أكثر منها من الأحياء فالمنظمات المناهضة للهجرة تدفع لي بسخاء….
لحسن الحظ بأن الثرثرة هذه كانت على رصيف ثابت بمقهى ولم تكن على متن عوامة متحركة، وإلا لكان حارس العوامة قد حل وثاقها كي تنطلق فوق صفحات الدانوب كما انطلقت عوامة نجيب محفوظ فوق النيل سابقاً آخذةً معها وكر الرذيلة .... لكن عوامة الدانوب هذه لا تزال ثابتة وهي تحمل على ظهرانيها آلاف القصص الأليمة كي تروي لنا قصصاً عن واقع أغنامٍ سيقت نحو الهلاك و أخر عن ذئابٍ افترستها بلا رحمة، ولما تزل هنالك آلاف القصص البتراء دون أن تكتمل نهاياتها الحزينة.
التعليقات