ما أشد وجع اللحظة التي تسقط فيها الأقنعة عن الوجوه التي ألفتها، فتُبصر خلف ابتساماتها شهوة التلصص، وخلف ادعاءاتها بالحب مكرًا دفينًا.
ثمة من يترصدك لا حبًّا ولا حرصًا، بل مرضًا يسكن روحه؛ يتتبع خطوك وهمسك، ينهش أخبارك كما تنهش الضواري فريستها، لا لشيء سوى أن يطفئ ظمأ الفضول الأجوف، أو يروي حقدًا لا يفصح عنه.
يسألك عن حالك سؤال المحب، فإذا أجبتَ، حمَّل كلماتك ما لم تحتمل، وزاد عليها أضعاف ما نطقتَ.
وإن صمتَّ، اجتهد في نسج الظنون عليك، كأنما الصمت في عرفه ذنب، والستر جريمة.
يتصيّد حروفك ليبني منها صروح أكاذيب، ويستلّ من نظراتك ما يسوّغ به أراجيفه، وينسب إليك ما لم تفعله، وما لم تفكر به قط.
تسمع عن نفسك روايات عجيبة، وأقاويل غريبة، وتُنسَب إليك أسرارٌ لم تدر بها يومًا، وكأنهم يعلمون عنك ما جهلته أنت عن ذاتك!
ما أشد بؤس أولئك الذين ادّعوا يوماً أنهم الرفاق، فإذا بهم أول المتآمرين، وأقرب المتطفلين، وأسوأ المخبرين.
يتحلقون حول تفاصيلك كما تتحلق الغربان حول الجراح، لا شفقةً، بل شماتةً واستزادةً.
ولو أوصدت كل باب، وأحكمت كل ستار، لتسللوا كالدخان تحت الأبواب، أو حاموا حولك كذباب لا يرتوي، لأنهم لا يبتغون لك خيرًا، بل يعتاشون على زلات يتوهمونها، وأوهام ينسجونها.
فإياك أن تظن أن كثرة السائلين دليل محبة، أو أن وفرة المهتمين برواياتك برهان مكانة؛ فالفضول اللئيم قد يتشبه بالوداد، والخيانة قد تتوشح برداء الأخوة.
ثم اعلمْ أن الحياة لا تخلو من المترصدين، وأن الصديق الحقيقي مرآة لا خنجر، وأن النقاء سلعة نادرة، لا يعرفها إلا من طهرت سريرته، وصفا قلبه، وصدق لسانه.
في زمن الأقنعة، لا تنخدع بالوجوه، ولا تستأمن الألسنة، فإن للقلوب أعينًا أصدق من العيون، وللأرواح شواهد أبلغ من الأحاديث.
التعليقات