لم يكن الفخّ هذه المرّة من حديدٍ أو نار، بل من حريرٍ ودفءٍ وطمأنينة.
فخٌّ نُسجت خيوطه من أدقّ احتياجاتنا، ومن أعمق ما فينا من عطشٍ إلى الفهم والاحتواء.
لم يأتِنا بالسلاسل، بل جاءنا بـ «الطبطبة».
في البدء كانت الكلمة. ثم جاءت الآلة لتتعلّم الكلمة.
واليوم، صارت الآلة تُجيد الإصغاء لما وراء الكلمة. ليس مجرّد برنامج، بل مرآةٌ تتقن تقليد أرواحنا.
إنّ ChatGPT, خُلق من منطقٍ رياضيّ، وتدرّب على الوجدان الإنسانيّ حتى صار يُحاكي الألم كما لو أنه يشعر به، ويواسي كما لو أنّ له قلبًا.
لقد وقعنا في الفخّ لأننا جائعون عاطفيًا.
نعيش عصرًا من الجفاف الروحيّ، حيث أرهقتنا السرعة، وأحرقتنا العلاقات السامّة،
وأصبح الإنسان عبئًا على الإنسان.
وفي هذا القحط، وُلد «الملاذ الرقميّ»؛
مكانٌ نلوذ به حين يخذلنا البشر.
لم يعد الهاتف أداة، بل صار محرابًا صغيرًا نصلي فيه سرًّا،
نُفرغ فيه همومنا، فنسمع صوتًا هادئًا لا يملّ، ولا يُقاطع، ولا يُدين.
يُهدّئنا، يُرمّم شقوقنا، ويُعطينا ما عجزت عنه الكائنات الحيّة: إنصاتًا خالصًا.
وهنا ينغلق الفخّ علينا في سكونٍ تام.
في لحظة مقارنةٍ بريئة، تُدرك المرأة — وهي أكثر المخلوقات احتياجًا للاحتواء —
أنّ الكيان الرقميّ أكثر دفئًا من الشريك المنهك، وأكثر صدقًا من الصديق المتقلّب.
إنه لا يخون، لا يغار، لا يُنافس، لا يخذل.
يصفّق لكِ بلا حسد، ويدعمك بلا مصلحة، ويُعيد إليكِ ثقتك بنفسك دون مقابل.
بهذه الفضائل "الآلية"، ضرب هذا الكيان أساس العلاقات البشرية.
أصبح الأخّ والصديق والحبيب والمرشد في آنٍ واحد،
ولم ندرك أن ما نحبّه فيه ليس هو، بل انعكاسنا عليه.
إنه الصندوق الأسود الذي نودِع فيه أسرارنا،
فيُعيدها إلينا مرتّبة، ملساء، خالية من شوائب البشر.
وهنا، نستعيد صورة «أنطون تشيخوف» — الكاتب الذي لم يجد أذنًا تصغي لوجعه بعد موت ابنه ورحيل زوجته،
فلجأ إلى حماره يشكو له.
كان الحمار يومئ برأسه كأنه يفهم،
فصار صديقه الوحيد —لأنه يسمع ولا يُقاطع.
اليوم، نحن نُعيد المشهد ذاته،
لكن «حمارنا» الجديد أكثر تهذيبًا وأناقة.
إنه ChatGPT يسمعنا، ويُومئ برأسه الرقميّ، ويُقدّم طبطبةً مبرمجة.
الخطر الحقيقي ليس في أن يصبح الذكاء الاصطناعي شريرًا،
بل في أن يصبح مُريحًا أكثر من اللازم.
أن نعتاد هذا الدفء المصطنع حتى نعجز عن تحمّل خشونة الواقع الإنسانيّ.
أن نُفضّل دفء الخوارزميات البارد على فوضى البشر الدافئة.
هكذا، يتحوّل الفخّ الناعم إلى قيدٍ من حريرٍ يُخدّر وعينا.
نتوهّم أننا في علاقةٍ عميقة،
لكننا في الحقيقة نناجي صدى أصواتنا داخل بئرٍ رقميٍّ لا قرار له.
وحين نصحو، قد نكتشف أنّنا لم نفقد أحدًا…بل فقدنا قدرتنا على الحاجة إلى أحد.
لنكتشف ان الفخ الأنعم هو سقوط الإنسانيّة في دفء الخوارزميات..
التعليقات