دعونا إلى ضرورة صياغة خطاب عربى جديد لاستثمار اختراق السردية الصهيونية الذى أثمر تغيرا فى المواقف الدولية الشعبية والرسمية لمصلحة القضية الفلسطينية. وذكرنا فى المقال السابق أن تحقيق هذا الهدف يستلزم بناء هيكل سياسى وقانونى وإعلامى ويتطلب العمل على مسارات عديدة اشرنا الى اثنين منها (المطالبة بتنفيذ القوانين الدولية الخاصة بجرائم الحرب. وجمع أدلة الإبادة الجماعية بغزة وتجهيزها للاستخدام بالمحاكم الدولية) ونستكمل اليوم بقيتها:
-ضرورة إنشاء إدارات إقليمية ودولية مؤسسية لتبنى هذا الخطاب وشرحه وتقديمه بلغات العالم، ووضع آليات مستدامة لنشره، بدلا من العشوائية وأسلوب إطفاء الحرائق الذى نتبعه فى خطابنا تجاه العالم، فمنذ الحروب الصليبية وجدنا جهودا غربية جادة لمعرفة الشرق- وفى قلبه العالم العربى والإسلامى - ونقاط الضعف والقوة فيه، وأسلوب التعامل معه عبر علم «الاستشراق». ثم تطور الأمر فى الحقبة الاستعمارية بتكوين نخب وولاءات فكرية وثقافة وربما سياسية داخل عالمنا العربى والإسلامى تتحدث باسم الغرب، بينما تراوح موقفنا منه بين الصمت أو رد الفعل الدفاعى، وحتى عندما تكونت مؤسسات إقليمية ودولية عربية وإسلامية لم نجد مبادرات لفعل مقابل لـ»الاستشراق» ولا حتى لتصحيح صورة العرب والمسلمين أمام العالم، وإنما اقتصر الأمر غالبا على ردود أفعال على الأحداث. نريد فعلا مستداما يعرض قضايانا العادلة باعتبارها جزءا من القضايا الإنسانية عبر مؤسسات مسئولة.
-الضغط الموجه، بحيث يصبح العمل من القاعدة إلى القمة، وذلك عبر التركيز على التأثير المحلى، فيجب توجيه حملات الضغط نحو الدوائر الانتخابية للسياسيين المؤثرين فى أمريكا الشمالية وأوروبا. حين يشعر عضو البرلمان بأن موقفه من القضية يؤثر بشكل مباشر على أصوات الناخبين وتمويل حملته، سيتغير توجهه. بالإضافة إلى دعم حركة المقاطعة (BDS)، من خلال توسيع نطاقها لتشمل حملات منظمة لسحب الاستثمارات من صناديق التقاعد والجامعات الغربية التى تستثمر فى شركات مرتبطة بالاحتلال الإسرائيلى. والتعاون مع حركات الحقوق المدنية، ومجموعات مكافحة العنصرية، وحركات الطلاب فى الجامعات الغربية، والمنظمات اليهودية التقدمية المناهضة للصهيونية، لربط القضية الفلسطينية بقضايا الحقوق الإنسانية والعدالة على نطاق أوسع.
- تفكيك «الإسلاموفوبيا» وتصحيح الصورة النمطية للعرب والتى استُغلت سابقا لتبرير دعم الاحتلال. وهذا يتطلب ما يمكن تسميته «أنسنة السردية العربية» عبر إبراز الكفاءات والإنجازات العربية والمسلمة فى الغرب بمختلف المجالات العلمية والثقافية والاجتماعية. واختيار خبراء ومشاهير عرب مقيمين هناك للحديث باعتدال وحرفية عن قضايانا على النحو الذى فعله باسم يوسف فى حديثه عن القضية الفلسطينية. ومن ناحية أخرى عرض الوجه الآخر للعرب والمسلمين، بعيدا عن الصراعات والحروب، من خلال إبراز إبداعاتهم وإسهاماتهم العلمية، وتنوعهم الثقافى، وتقديم نماذج من العلماء المبدعين الفلسطينيين والعرب مثل نجيب محفوظ، ومحمود درويش، وأحمد زويل، إلى جانب عرض التراث الفلسطينى الغنى. وإبراز القيم الإنسانية والتضامنية التى تجمعنا مع بقية شعوب العالم. وإنتاج وترجمة محتوى ثقافى متنوع، مثل الأفلام، والمسلسلات، والأدب، والموسيقى، لنقل الرواية العربية والإسلامية بطريقة مبدعة، مع التركيز على قضايا إنسانية عالمية، مما يساعد فى بناء جسر من الثقة والتفاهم بين الشعوب.
كما ينبغى تمكين النشطاء والمؤثرين العرب، وخاصة الفلسطينيون على منصات التواصل الاجتماعى، وتزويدهم بالتدريب اللازم على مهارات الحوار مع الآخر المختلف دينيا وثقافيا وإقناعه، لمساعدتهم فى نقل التجربة الإنسانية الفلسطينية بصدق وفعالية، وباستخدام عدة لغات، فالتواصل المباشر بين الشباب العربى والمسلم ونظرائهم فى الغرب له أثر كبير فى كسر الحواجز النفسية وتبدد الصور النمطية.
-رفض ازدواجية المعايير: على الخطاب العربى الجديد الالتزام بالتصدى بوضوح لجميع أشكال الكراهية والتعصب، بما فى ذلك «الإسلاموفوبيا» و«معاداة السامية». هذا الموقف الأخلاقى يقطع الطريق أمام أى محاولات للإقصاء من المنصات الرقمية أو توجيه اتهامات لحركات دعم فلسطين بأنها تحمل أجندات كراهية. وهذا يتطلب تفكيك خطاب «معاداة السامية»، فمن الضرورى فضح ومواجهة محاولات تصوير أى نقد موجه للكيان الصهيونى أو دعم للحق الفلسطينى على أنه معاداة للسامية. هذا الأسلوب الذى استُخدم سابقا لكتم الأصوات بدأ يفقد تأثيره بشكل تدريجى، ويتعين التمييز بوضوح بين معاداة السامية كنوع من العنصرية المرفوضة وبين رفض المشروع الصهيونى الاستعمارى. وذلك بوسائل عديدة أولاها إبراز أن العرب أساسا «ساميون»!
التعليقات