يتضمن تجديد الخطاب الإسلامى ترتيبٌ سلّم الأولويات وفق المقاصد الكبرى للدين بما يحقق مصالح الناس.وفى إطار مناقشتنا لملامح الخطاب الدينى المنشود طرحنا رؤية، تتضمن التركيز على نقاط رئيسية، ذكرنا منها فى المقال السابق «بناء وتشكيل المسلم المعاصر» ليكون إنسانا فاعلا ومنتجا فى مجتمعه بحيث يمكن للخطاب الإسلامى أن يؤسس لنفسية العزة، وعقلية الاختيار الحر المسئول، فى مقابل نفسية العبيد وعقلية القطيع. واستعرضنا الجانب الخاص بالبناء النفسى للمسلم المعاصر ونعرض اليوم لملامح تتعلق بالجانب العقلى والفكرى فى ذلك البناء.
وفى هذا السياق فإن الخطاب الإسلامى المنشود مطالب بالعمل على استعادة الاهتمام بالعلم والبحث العلمى فى حياة الناس ليس بمجرد ذكر إنجازات علماء المسلمين الأوائل واسهامهم فى الحضارة الإنسانية، وإنما بغرس هذه الروح التواقة للعلم والتعليم التى اثمرت الحالة العلمية التى سرت فى ربوع الأمة، عيرالانتقال من خطاب «كان علماؤنا السابقون» الى خطاب «كيف يكون علماء الحاضر والمستقبل؟» وترسيخ الذهنية العلمية والقيم التى تؤسس لها فى واقع المسلمين اليوم. هنا نحتاج إلى خطاب دينى يوجه المسلمين الى التبرع لبناء مدارس أو معامل أو مراكز بحثية، أو الانفاق على الطلبة غير القادرين أو تشجيع الطلبة المتفوقين لإتمام دراساتهم العليا. خطاب يعلى من مكانة العلم والعالم فى المجتمع ويعيد الاعتبار لمنزلة المعلم، ويتبنى التشجيع على الابتكار والإبداع. وفى نصوص الدين وتعاليمه ثراء فى هذا المجال مطلوب استدعاؤه وشرحه وبيانه للناس، خاصة أن البحث العلمى والابتكار أصبح مطلبا وجوديا فى مسيرة التنمية وسلاحا فى معركة البقاء ومواجهة التحديات التى تحدق بمجتمعاتنا العربية والإسلامية، ليس فقط فيما يتعلق بالمجال العسكري، وإنما أيضا فى المجال المدني، باعتباره الاستثمار الأعلى عائدا ضمن اقتصاد المعرفة الذى قلب موازين الثروة فى عالم اليوم . وهنا نشير إلى مثال واحد أصبح حديث العالم خلال الأيام القليلة الماضية، فقد استحوذت جوجل العملاقة على إحدى الشركات الناشئة فى الكيان الصهيونى بمجال الأمن السيبرانى مقابل 32 مليار دولار وهى أكبر عملية استحواذ فى تاريخها. والغريب أن هذه الشركة التى بيعت، تأسست عام 2020 ويعمل بها نحو 1000 موظف معظمهم مهندسون وخبراء أمن سيبرانى وعلماء بيانات. فهذا العدد القليل جدا حقق عائدا قدره 32 مليار دولار فى 4 سنوات دون أصول تذكر، اعتمادا على العلم والمعرفة والابتكار.. هذا العائد اكثر من الناتج المحلى الإجمالى لدولتى أفغانستان والصومال معا عام 2023!!. ومن ثم فإن قضية العلم والبحث العلمى والابتكار والإبداع ينبغى أن تكون ضمن أولويات الخطاب الدينى انطلاقا من أن الاستثمار فى العنصر الإنسانى هو مركز الثقل فى العملية الحضارية.
وفى هذا الجانب العقلى والفكرى فإن الخطاب الإسلامى مطالب أيضا بالتحرر من «التاريخانية» والاتجاه إلى المعاصرة، فكثير من أطروحات بعض فصائل الخطاب الإسلامى اليوم يبدأ خطابها بكلمة «كان». لا شك أن تاريخنا غنى وتراثنا ثرى ولكن هذا لا يعنى أن نولى وجوهنا شطر الماضى فحسب، وإنما علينا ان ننطلق من مشكلات وقضايا الواقع وننزل النص عليه، انطلاقا من دعوة فريدة للاجتهاد تشكل ملمحا أصيلا فى ثقافتنا الإسلامية، هذه الدعوة للاجتهاد بمعناه الواسع، فهمها حقا سلفنا وبنوا عليها، فإنجازنا الحضارى لم يتوقف عند صدر الإسلام ولا جيل الصحابة، وإنما أضافت إليه وطورته أجيال التابعين وتابعيهم وإلا لما بقيت الحضارة الإسلامية سائدة ومسيطرة عشرة قرون.
و«التاريخانية» التى نرصدها فى الخطاب الإسلامى المعاصر ليس المقصود بها مجرد استدعاء أحداث التاريخ الإسلامى ومقولاته للاعتبار منها، وإنما تمتد أيضا لتشكل سمة فى أطروحات بعض أصحاب هذا الخطاب، فهناك العديد من التعبيرات المتداولة فى الخطاب الدينى اليوم تستخدم بشكل يثير الالتباس ويبعدها عن حقيقة الإسلام، ومن ذلك الفهم الخاطئ لعبارات مثل «الحاكمية الإلهية» و«الجاهلية».
إن الخطاب الإسلامى الجديد مطالب بإعادة فهم مثل هذه التعبيرات واستخدامها ضمن المنظر القرآنى الكلي. كما ينبغى الاتفاق على آلية للتعامل مع التراث تقوم على استراتيجية «التنقية لا التجريح» فما اصطلحنا على تسميته «بالتراث» يحتاج إلى ضبط وتحديد لبيان مكوناته، ووزن دقيق لموقعها من الإسلام، وموقع الإسلام منها.
التعليقات