تَذكرونا في عصر ما بعد كورونا

تَذكرونا في عصر ما بعد كورونا

د. محمد يونــس

العالم بعد كورونا لن يكون مثل ما قبله، سوف يتوقف المؤرخون كثيرا عند أفاعيل هذا الفيروس، الذي أصبح علامة يؤرخ بها ليس فقط في كتاب التاريخ، وإنما أيضا بكتاب الجغرافيا، بعد غلق الحدود بين بلدان الاتحاد الواحد مثل ما حدث في دول الاتحاد الأوروبي، وتعليق حركة السفر، وغلق المدارس والجامعات لينحصر غالبية الناس داخل حدود جغرافية جديدة لا تتجاوز أبواب المنازل.

هذا الحدث الجلل بات حديث كل الدنيا، لدرجة أصبحنا نحن الصحفيون نعاني الأمرين في الحصول على أخبار أخرى بعد أن باتت غالبية الأنباء لا تكاد يخلو أحدها من تأثيرات هذا الفيروس. 

فلم تعد أخباره قاصرة على أرقام الإصابات والوفيات والإجراءات الاحترازية للمواجهة، ولا حتى توقف الأنشطة الجماهيرية مثل المباريات الرياضية أو المهرجانات، وإنما أصبح متداخلا مع حركة البورصات وأسواق المال والأعمال وأحوال السياحة والسفر و أنظمة التعليم والامتحانات، والعمل بالقطاعات العامة والخاصة بل اصبحنا نسمع أغاني موضوعها هذا الفيروس و"مكياج كورونا" و"طرق تنظيف الموبايل في عصر كورونا"!

وصارت معدلات الإصابة به وأرقام ضحاياه تتصدر نشرات الأخبار والصفحات الأولى للصحف يوميا،على الرغم من أن ما نتج عنه من أصابات ووفيات أقل بكثير من الأويئة التي ظهرت قبله، فنسبة الوفيات إلى عدد المصابين بكورونا لم تبلغ 5 % . بل أن حصيلة الذين ماتوا بهذا الفيروس في العالم، حتى كتابة هذه السطور، لم تتجاز 47 ألف وفاة، والإصابات في حدود 922 ألف، في حين تتسبب الإنفلونزا العادية سنويًّا في إصابة حوالي خمسة ملايين شخص بالعالم، وموت 646 ألف آخرين، بحسب إحصائات منظمة الصحة العالمية . بل أن التغذية غير الصحية تتسبب في وفاة 11 مليون شخص سنويا. فلماذا كل هذا الفزع؟

ربما لأن الدول المتقدمة ليس لديها وسيلة للحماية منه، حيث تزايد الخوف عندما اقترب الفيروس من قلب العالم المتقدم الذي ظل لقرون يصدر الرعب للغير(احتلال وحروب ونفايات نووية) دون أن يخشى رد الفعل.

جائحة كورونا سوف تنتهى كما انتهت الأوبئة التي سبقته، وكل ما سوف يتبقى من هذه الكارثة هو دروسها.. فما أبرزها؟

لعل أهم ما تعلمه العالم من كرونا، هو ضعف الإنسان وادراكه أن القوة وحدها لا تكفي ، وأن دوام الحال من المحال، وأن الله هو المغير الذي لا يتغير، وأن فيروسا صغيرا قد يفعل بالمتجبرين ما لا تفعله القنابل النووية. 

وربما يتعلم الأقوياء أن أسلحة الدمار الشامل لن تحميهم من فيروس أصغر من أن تراه بالعين المجردة، وقد تبعث مشاهد نقل الجثث في شاحنات لحرقها بعيدا عن السكان، برسائل مفادها أنهم لو انفقوا على أنظمة العلاج ربع ما أنفق على السلاح لما بشروا بالمزيد من الحزن على الأحبة في قادم الأيام كما قال رئيس وزراء بريطانيا.

تعلمنا من جائحة كورونا ان النجوم الحقيقيين ليس أولائك الذين يتقاضون ملايين الدولارات، فقط لأنهم يجيدون رفس الكرة أو يزعقون خلف الميكروفونات أو يلعوبا أدورا مصنوعة أمام الكاميرات، وإنما الأبطال الحقيقيون هم من عينة الجيش الأبيض الذي يتقدم الصفوف لحماية الإنسانية اليوم، هم أولئك الذين لولا عملهم لعجزت البشرية عن الاستمرار في الحياة، مثل الطبيب الذي يقدم العلاج أو الباحث الذي يخترع دواء أو آلة تجعل حياتنا أفضل، والفلاح الذي يزرع الغذاء وعامل النظافة الذي يحاصر الأوبئة القاتلة، والجندي الذي يحرس الأوطان، لمثل هؤلاء يجب أن تقام المنافسات المتلفزة وليس أصحاب الأصوات الجميلة فقط! 

ومما تعلمه العالم أن العولمة ليس نهاية التاريخ فها هي الدول تنغلق على نفسها، وربما يجد دعاة الحمائية الاقتصادية في هذه الوباء حجة قوية لصالحهم، عندما لمسوا أن العولمة الهائلة تسقط بضربة كائن مجهري. 

فهل يتعلم أصحاب رأس المال والشركات العملاقة التي تكسب المليارات على حساب الغلابة والفقراء أن الحقوق الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم ليست للمتاجرة وأن العلم للبشرية وليس للاحتكار، هل يتعلمون الرحمة من الشركة الأيرلندية التي تعد أشهر مصنع لأجهزة التنفس الصناعي، والتي أسقطت حقوق الملكية الفكرية الخاصة بأجهزة التنفس الصناعي التي تملكها، وشاركت كل التصميمات مع الدول للبدء في تصنيعها فورا مساهمة منها في مواجهة كورونا. 

نتمنى أن يولد من رحم تجربة كورونا نموذج اقتصادي عالمي جديد، يحمي غير القادرين بكل مكان، ليس فقط من باب الأخوة الإنسانية، وإنما أيضا لأن في ذلك مصلحة للجميع. فهل يحدث ذلك ؟ لا أظن.. وإذا حدث ذلك، فتذكرونا في عصر ما بعد كرونا! 

التعليقات