كم تغيّرتُ، يا نفسي… لم أعد ذاك الذي كان يضطرب قلبه لظلٍّ يجيء أو صوتٍ يغيب. الأيام فعلت بي ما لم أظنّه ممكنًا؛ جرّدتني من أوهام التعلّق، وأعادت صياغتي ببطء، كما ينحت النهر صخور الجبال عبر قرونٍ طويلة.
في البدء كنتُ أظنّ أنّ الحبَّ يعني الذوبان، وأنّ الغياب يعني النهاية. كنتُ أتشبّث بالآخرين كأنّهم أوتادُ وجودي. لكنّ الخيبات المتكرّرة كشفت لي أنّ الإنسان لا يُولد قويًّا، بل يُربّى على القوّة عبر انكساراته. وما يسمّيه علماء النفس "التكيّف الانفعالي"، ما هو إلا تلك المناعة التي تنشأ حين يتدرّب القلب على احتمال الفقد دون أن يتهاوى.
ولستُ باردًا، ولا صخريّ القلب… إنما صرتُ أكثر وعيًا بأنّ الوجود لا يرحم من يسلّم نفسه كلّها إلى يدٍ واحدة. علّمتني الحياة أن أحبّ، لكن دون أن أهلك. أن أخسر، لكن دون أن أنكسر. أن أواصل الطريق، حتى وإن لم يبقَ أحد إلى جواري.
أدركتُ متأخرًا ما قصده دوستويفسكي: إنّ الزمان لا يُعلّمنا القسوة، بل يُربّينا على الحكمة. على أن نُصافح الحاضر بلا خوف من الفقد، وأن نُعطي بلا ارتهان، وأن نحيا بلا أوهام الخلود في أيّ وجهٍ من وجوه البشر.
والآن، حين يرحل أحدهم، لا أُحني رأسي كما كنتُ أفعل… بل أبتسم ابتسامة صغيرة، كمن عرف سرّ اللعبة، وأكمل السير وحدي، واثقًا أنّ الوحدة ليست فراغًا، بل فسحة للنفس كي تعانق ذاتها، وتكتشف أنّها لم تكن يومًا بحاجة إلى أكثر مما تملك.
التعليقات