في هذا الصباح، استعادت المدينة وعيها، على إيقاع سيمفونية لم تُعزف منذ شهور طويلة. لم تكن مجرد أصوات، بل نغمات الحياة نفسها تنسج لحناً فريداً من الضوء والضجيج. الحقائب تتدحرج على الأرصفة، كأنها أحلام تتحرك، وتتراقص خطوات صغيرة مع عقارب الساعة في رقصة أزلية بين الزمن والطفولة. الضحكات تمتزج بهمسات الأمهات الحانية، اللواتي يوجهن صغارهن نحو رياض المعرفة، بينما الحافلات الصفراء تشق قلب الشوارع كسفن ذهبية تمخر عباب محيط يضج بالأحلام. هذا الهواء المشحون بطاقة البدايات، هو نفسه الذي كان بالأمس يتنفس ببطء، في انتظار هذه اللحظة.
إن التبدل بين الأمس واليوم هو كالفصل بين السكون والحركة، بين الصمت والأغنية. فالشوارع التي كانت هادئة كبحيرة في ليلة بلا ريح، وتستريح كعملاق نائم يحلم أحلاماً طويلة، عادت اليوم لتضج بالحياة والحيوية. ذلك الهدوء لم يكن فراغاً، بل كان مرحلة تأمل واسترداد للأنفاس، تماماً كما تتأهب الطبيعة بعد السبات الطويل. النصف الأول من هذا العام كان يوماً متصلاً من الصمت، تتوالى فيه الأوقات متشابهة في هدوئها، في انتظار هذه اللحظة التي تنطلق فيها الحياة بقوة مضاعفة وجمال أعمق.
اليوم، انفتح الستار عن مسرح الحياة الذي كان ينتظر بصبر، وظهرت كل ألوانه: أبيض الحافلات، وأزرق الحقائب، وأحمر الضحكات، وأخضر الأمل. أدركت حينها أن للحياة إيقاعاتها الخاصة، وأن الصمت العميق الذي خبرناه كان مقدمة طبيعية لهذا الصخب الجميل، وأن السكون الذي احتضن المدينة كان يحمل في طياته بذرة هذه اليقظة المقدسة.
وهكذا، علمتني الشوارع اليوم أن الحياة ليست مُجرد خط مستقيم يمتد نحو اللانهاية، بل هي دورات مُتعاقبة من السكون والانفجار، من الصمت والحركة، من الغياب الحكيم والحضور المُظفر.
وأن كل لحظة سكون هي في جوهرها الخفي لحظة تحضير مُقدس للانطلاق نحو الأعالي، وأن كل غياب هو في حقيقته الأزلية الوجه الآخر المُشرق للعودة الظافرة، كما يعود النهار بعد ليل طويل، ويعود الربيع بعد شتاء قارس، وتعود الأحلام بعد سُبات الروح العميق.
التعليقات