هناك ضريبة ثقيلة لامتلاك عينٍ ترفض العمى الانتقائي.
أن تلتقط ما لا يُقال، وأن تستمع إلى ما يتخفّى خلف الكلمات، وأن تقرأ المعاني التي لم تُوقَّع بالحبر… ذلك ليس نبوغًا، بل اختبارٌ قاسٍ يتقن التمويه بملامح الحكمة.
أنا لا أرى الوجوه، بل أقرأ طبقاتها العميقة.
لا أسمع الأصوات، بل أترصّد ارتعاشة الحقيقة حين ترتبك، وارتباك الخيانة وهي تحاول إخفاء رائحتها.
التفاصيل التي يتجاوزها الناس بلا اكتراث، تنهض أمامي كصفحات مكتملة، لا تمنح فرصة لسوء الفهم.
ولهذا، أخسر أكثر مما أحصد.
فالوجع لا يولد من خلاف واضحٍ يمكن ترميمه، ولا من غضبٍ يهدأ مع الوقت.
الوجع الحقيقيّ ينبت في المساحات الخفيّة:
في انكسارٍ غير مُلاحظ في طبقة الصوت، في ابتسامة فقدت دفئها، وفي تلك اللحظة الحاسمة التي يهبط فيها الإدراك بأنّ نظرة الآخر تجاهك لم تَعُد كما كانت.
أُجيد الحركة فوق السطح
فأبتسم، أساير، وأستكمل الحديث كأنّ شيئًا لم يُصِب الوجدان.
لكن في العمق، يُغلق بابٌ بنعومة قاتلة ، يشبه انسحاب ورقة يابسة من غصنها.
وهذا الباب، متى أُغلق، لا تعيد فتحه حجج العقل ولا اعتذارات المتأخرين.
فالسقوط من القلب لا يعالجه منطق.
لا أعاتب؛ لأنّ العتاب امتياز لم أعد أمنحه ..لأنه لا أحد يفهمه.
ولا أشرح ما فهمت؛ لأنّ الكلمات تفقد براءتها حين تُنطق، بينما يحفظ الصمتُ نقاء إدراكه دون تشويه.
أفضّل المسافة. هي مسافة قد تُفهم جفاءً أو تعاليًا، بينما هي في حقيقتها ملاذٌ يحمي ما تبقّى من الأعماق من تكرار الأذى.
أما حين نتكلم عن الصداقة، فهي عندي عهدٌ لا يُدوّن على الورق.
لا تُقاس بالصور المشتركة، ولا بالضحكات العابرة.
يختبرها الغياب أكثر مما يفضحها الحضور.
الصديق الحقّ هو من يراك ويسمعك بقلبه قبل عقله مهما توالت الكلمات وغارت النفوس وادعى المدعيين..
ومن لا تختبئ بينك وبينه حسابات مكتومة أو توازنات خادعة.
فإن وُجد الخوف أو المقارنة أو الحذر، فالرحيل عندئذٍ واجب بلا ضغينة ولا تردّد.
فالعلاقة التي تقوم على ميزان قوى، ليست علاقة… بل هدنة بانتظار الانفجار.
أنا لا أطلب كمالًا أسطوريًا، بل صدقًا بسيطًا يُشبه الطمأنينة.
وعندما تفقد التفاصيل نورها، ويتلوث الموقف بغبار الزيف…
أسلّم قلبي لمحراب الصمت.
فالصمت حين يصفو أوفى من حشد أصدقاء،
وأصدق من اعتذار لم يطلب يأتي بعد فوات الوجدان.
التعليقات