باغتني ابني بسؤاله في اليوم الثالث لوفاة أخي. رمقني بنظرة متسائلة فأشحت بوجهي لأهرب من إجابة تشكل نزيفا داخليا لا يفتر. رآني يوم وفاة والدي متماسكة فتعجب من أمري. كان متأكدا من أن هذا الفقد تحديدا كان يعني لي الكثير لكنه تعجب من جمودي. هل ظن أنني لا أبالي أو لعله ظن أنني متبلدة الحس جافة المشاعر.
حضر معي فقدان عزيز تلو آخر وأنا كما أنا لم أتغير. لا بكاء؛ لا نحيب ؛ لا ارتباك. لم أنحنِ ولم أسقط. لم أصرخ ولم ينقصهم شيئ فطعامهم حاضر وملابسهم نظيفة.
لم أملك رفاهية البكاء يوم وفاة أمي ثم أبي من بعدها. فعلي ترتيب الأوضاع والاهتمام بتفاصيل الجنازة والعزاء. كان على اصطناع ثباتة الجأش حتى يهدأ كل من حولي. إن بكيت فمن سيحضر الطبيب ليكتب شهادة الوفاة ومن سيرتب إجراءات الدفن والغسل؟! استسلامي لهول الموقف يعني شللا وموتا آخر يضاف للموقف الحزين. مات أخي فتماسكت ليتماسك أبناؤه وبقية إخوتي من حولي . حبست مشاعري حبسا انفراديا في زنزانة ضيقة فقدت مفتاحها رغم استغاثاتها التي لا تفارقني. أتجاهلها فهناك دوما ما يجب فعله ولا مجال لتجرع الأحزان.
نعم يا بنى أنا لم أبك أمامكم فالبكاء رفاهية لم أمتلكها يوما منذ ولدت ووجدت نفسي الابنة الكبرى والأخت الكبرى والحفيدة الأولى في العائلة. أنا الأم البديلة والقدوة لمن هم أصغر مني.
كوني الكبيرة فعلى واجبات ليست على غيري وتكبلني التزامات تجاه الجميع. حاصرتني منذ صغري كلمة (أنتِ الكبيرة)؛ الكبير يفعل كذا وكذا والكبير لا يفعل كذا وكذا. حماقات الطفولة كانت ممنوعة حتى لا يقلدني أحد. الاعتراض مرفوض ولو كان على حق فالسمع والطاعة معديان بالتبعية.
لم أملك يوما رفاهية الخوف، فمن سيشعل ضوء الغرفة ويبدد الظلام غيري فأنا الكبيرة الأكبر حجما ولأن طولي يسمح لي بالوصول لمفتاح الإضاءة فعلي إنارة المكان للصغار. الأولوية دائمة لهم في كل شيء؛ في الأكل والضحك واللعب والدراسة بل وحتى في النوم!
تسألني لماذا لا أبكي يا صغيري؟ لأنه كان على دوما حل المشكلات وإيجاد المخارج وتخطي الصعاب. بكائي واستسلامي كانا يعنيان تفاقم الأمور ولم يكن هذا في مصلحة أي أحد.
لم أبك لأنني من يمسح دموع الآخرين.
لم أبك لأن دموعي تنسكب لكن يدي اليمنى تحكم قبضتها على أخت واليسرى على أخ حتى لا يضلا الطريق. هناك من يتبع خطواتي فلا يمكنني أن أحيد عن الطريق أو حتى أتعثر فيسقطون جميعا.
لم أبك لأنني دوما من يجد حلا ينهي نوبات البكاء.
لم أبك لأن بكائي قلة حيلة لا تجوز.
لم أبك لأن بكائي خيانة لعهد أمان بيني وبين من حولي فهم يرونني مصدر طمأنينة ورسوخ في القرارات.
لم أبك حتى لا تحجب دموعي الطريق فأضل ويضل معي من يتبعني.
لم أبك لأن الأخت الكبرى لا تملك من هو أكبر منها فيواسيها ويطمئنها بألا تقلق مادام موجودا.
لم أبك لأنني حيدت مشاعري وحبستها فلا تظهر إلا ليلا عندما أختلي بها خلوة فردية فلا يرانا أحد في موضع ضعف وقلة حيلة.
لم أبك لأنني الشخص الذي يبحثون عنه دوما والاسم الذي يذكر فور كل طارئ.
هل علمت يا بني رفاهية أن تكون هشا قابلا للكسر فتميل ويميل كل الصف معك؟! هل سمعت عن عمود خيمة يميل أو وتد يضعف؟ هل رأيت أرضا أرهقها سير البشر عليها أم هل سمعت عن بحر جف من كثرة عطائه؟!
هل أيقنت أن البكاء رفاهية وأن خلف هذا الوجه الثابت أجزاء عبث بها الزمن فحولها لقطع فسيفساء مفتتة صغيرةفي حقيقتها لكنها تشكل كتلة واحدة في نظر من يراها.
لم أملك رفاهية الانحناء حتى لا أسقط ما علي من أحمال.
لا أخفيك سرا أن دموعي غلبتني يوما لكنني كنت أبكي بعين وأحتفظ بالأخرى صلبة جافة لتتحسس طريقها وطريق من خلفها.
التعليقات