«استشهد السلام فى وطن السلام وسقط العدل على المداخل..حين هوت مدينة القدس تراجع الحبّ وفى قلوب الدنيا استوطنت الحرب»..هكذا شدت فيروز أغنيتها الشهيرة «زهرة المدائن» بعد احتلال القدس فى يونيو 1967، وجاءت الأغنية نموذجاً فريدا للعمل الفنى القومي، حيث تتضافر القيم والسمات الوطنية والدينية فى نسيج وطنى واحد، ووظف الرحبانية دقات أجراس الكنائس وتيمة أذان الصلاة فى تجانس عبر عن الوحدة الوطنية فى مواجهة العدو، وقبيل ختام القصيدة تشترك مجموعة الكورال مع صوت فيروز فى لحن نابع من وجدان الأمة يوحى بجماهيرية الموقف: (الغضب الساطع آتٍ وأنا كلى إيمان، الغضب الساطع آتٍ سأمر على الأحزان، من كل طريق آتٍ بجياد الرهبة آتٍ، وكوجه الله الغامر آتٍ آتٍ آتٍ، لن يقفل باب مدينتنا فأنا ذاهبة لأصلي، سأدق على الأبواب، وسيهزم وجه القوة، البيت لنا والقدس لنا..) هكذا تجسدت كل المعانى الوطنية والقومية والدينية لتنتقل بالعمل الفنى من الرحبانية إلى رحاب الإنسانية الواسع والعابرة لحدود المكان والزمان.. كل يوم تتجدد هذه المعانى الملهمة (الغضب الساطع آت وسيهزم وجه القوة).. فكلما تطغى سطوة الاحتلال الغاشم، يتصاعد الغضب الساطع من بين الانكسارات والآلام وغشم اليمين المتطرف وغطرسة القوة ويصمد فى كل محاولات تزييف التاريخ والجغرافيا بهدف تهويد القدس وبقية أراضى فلسطين.
ويفضح زيف ديمقراطية الاحتلال فإذا كان الكثيرون من الإسرائيليين قد عبروا بتظاهراتهم عن رفضهم «للإصلاحات القضائية» التى تحاول من خلالها حكومة نيتانياهو إلغاء استقلال القضاء، فإنهم لم يفعلوا ذلك لإدانة عنصرية وعنف اليمين تجاه الشعب الفلسطينى وتجاهل الحكومة لجرائم المستوطنين فى حق أبناء فلسطين.
ومع ذلك فإن كل هذه الانتهاكات لن تمنع أبناء القدس المرابطين عن ممارسة شعائرهم الدينية على أرضهم فى الاقصى لأنهم لسان حالهم وكما شدت فيروز (فأنا ذاهبة لأصلي) ولن يثنيهم عن ذلك، اقتحام مئات المحتلين (المستوطنين) لباحات الأقصى تحت حراسة شرطة الاحتلال التى منعت المصلين من أداء صلواتهم فى المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفضت المعتكفين فى رمضان واعتدت عليهم لتخلى المسجد للمحتلين لتدنيس الأقصى فى مشهد يندى له جبين الإنسانية، بل أن شرطة الاحتلال اعتقلت مئات الفلسطينيين وكل جريمتهم أنهم (ذاهبون ليصلوا).
لو حدث العكس وقام مسلمون باقتحام كنيس يهودى لمنعهم من الصلاة تحت حراسة شرطة دولة إسلامية، فلنا أن نتخيل حجم التغطيات فى وسائل الإعلام العالمية التى كانت سوف تبرز (الإرهاب الإسلامى) والمعاداة للسامية والعدوان على حقوق الإنسان، وتفجر ينابيع الاسلاموفوبيا فى بقاع العالم، وظهور مئات الأفلام لتوثيق (همجية المسلمين والعرب وارهابهم)!.
ولكن هذه الاقتحامات المتتالية للأقصى، لم تسفر سوى عن صدور بيانات إدانة باهتة، على الرغم من ان صناع القرار فى دول العالم يعلمون ان كل هذه الإجراءات والجرائم - بالإضافة الى كونها انتهاكا سافرا لجميع القوانين والأعراف الدولية، فإنها أيضا محاولة لحكومة نيتانياهو - التى توصف بأنها أكثر حكومة متطرفة فى تاريخ إسرائيل- للهروب من مواجهة أزمات الداخل (مثل المظاهرات التى تعارض المساس بالقضاء، والعمل على إبعاد نيتانياهو عن المحاكمة بتهمة الفساد).
من مفارقات هذا المشهد ان الإعلام العالمى الذى يتدفق كل ساعة بآلاف الأخبار والصور ومقاطع الفيديو عن مأساة الشعب الأوكرانى بسبب الاجتياح الروسي، لا يولى الاهتمام نفسه لمأساة الشعب الفلسطينى تحت نير الاحتلال الإسرائيلى و يكاد يصمت عن مختلف أشكال العنف والإرهاب الذى يمارسه المستوطنون تجاه الفلسطينيين، وحتى فى تناول بعضها لجرائم الحرق والتدمير والترويع التى ارتكبها المستوطنون اليهود فى بلدة حوارة، وفى مناطق التماس بين المستوطنات وبين المدن والبلدات الفلسطينية. لم تصف أى وسيلة إعلامية غربية هذه الجرائم بأنها إرهاب يهودي.
إن الإصرار على توسيع الاستيطان ومحاولة تهويد القدس والعدوان على الأقصى لا يترك لأصحاب الأرض غيرَ خيار الاستماتة فى الدفاع عنها. كما ان تجاهل المحاور الفلسطينى الشرعى والمعتدل، يفتح باب المواجهة على مصراعيه أمام المقاومة بكل صورها ..نعم سقط العدل على المداخل ولكن (الغضب الساطع آت آت.. وبأيدينا سنعيد بهاء القدس) كما شدت فيروز!.
التعليقات