سخر فيلسوف القرن السابع عشر"رينيه ديكارت" من خضوع عصره للأوهام والخرافات بقوله "العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، إذ يعتقد كل فرد أنه قد أوتي منه ما يكفي". كان الرجل ينعى على أبناء عصره إهدارهم لمَلَكة "النور الطبيعي" التي لا يمكن بدونها تحقيق الحرية الفردية، ألا وهي التفكير القائم على المنطق المتحرر من الأحكام المسبقة. لذلك اتفق مؤرخو الفلاسفة على اختلاف توجهاتهم أن ينصبوا "ديكارت" أباً للفلسفة الحديثة، وأن يجعلوا من مقولته الشهيرة "أنا أفكر إذن فأنا موجود" نقطة البداية لعصر التنوير والنهاية لعصور الظلام.
وللوهلة الأولى قد يبدو التحرر من الأحكام المسبقة، وفقاً للمقولة الديكارتية، أمرا سهل المنال. فالتفكير بحرية وبمنطق سليم بالإعتماد على العقل وحده يبدو متاحاً لكل البشر على السواء، وهنا تكمن خدعة المقولة الديكارتية.
فلكي يستطيع الشخص أن يكون رأياً حراً في أي موضوع سيكون عليه أن يطلع على قدر لا بأس به من المعلومات والتحليلات الخاصة بهذا الموضوع. وسوف يكون عليه أيضا أن يبذل جهدا في الوصول لمصادر موثوق بها تتميز بالموضوعية والنزاهة. وإذا حالف الحظ الشخصَ في هذه المهمة الصعبة، سيكون عليه أن يبذل كثيرا من الوقت في تكوين رأيه الحر. وهنا تبرز الأهمية الحيوية للوقت كأساس لممارسة الحرية. فنحن لن نستطيع أن نكون رأيا حرا حول أفضل المطاعم التي تقدم السمك، أو أفضل طريقة نستثمر بها أموالنا دون أن يتوفر لنا الوقت اللازم للدراسة والمقارنة. وإذا عجزنا عن توفير الوقت اللازم لتكوين آرائنا الشخصية لن نجد أمامنا سوى الانحياز لآراء مسبقة. وسوف يكون إنحيازنا في تلك الحالة نتاجاً للتعصب أو العاطفة وليس نتاجاً لحرية العقل كما أراد "ديكارت".
ويبدو أن القائمين على الأمور في كل عصور العبودية قد سبقوا فلاسفة التنوير في إدراك قيمة الوقت كأداة للسيطرة وقمع الحرية. فلم يكن الخوف من العقاب البدني أو الإلهي أو المعنوي هو ما يبقي العبيد خاضعين، بل الإرهاق. كان هناك حرص دائم من ملاك العبيد على إبقائهم في حالة عمل دائم في ظروف تفتقر للحد الأدنى من الإنسانية. ومن السذاجة أن نظن أن تقليد تكبيل أقدام العبيد أثناء العمل في تشييد معابد سومر القديمة أو في مزارع التبغ في جنوب أمريكا كان بهدف منعهم من الهرب، بل كان غرضه الأساسي هو شل العقل بإنهاك الجسد. واستتبع ذلك أن تكون أوقات الفراغ المتاحة للعبيد كافية بالكاد لنيل قسط من الراحة وممارسة الغرائز الطبيعية.
لقد اقتضى استمرار النظم الاقتصادية القائمة على العبودية والسخرة أن يسلب القائمون عليها أكبر قدر ممكن من وقت الخاضعين لها. فبدون توفر الوقت الذي يشعر فيه الإنسان بالراحة لن يتسنى له أبدا أن يفكر في حتمية وضعه من عدمها، ناهيك عن التفكير في تغيير هذا الوضع.
ويلاحظ مهندس الأراضي والكاتب الأمريكي الذي عاش في القرن التاسع عشر"فريدريك لو أولمستيد"، والذي أجبرته ظروف عمله على التجوال في الولايات الجنوبية المعتمدة على عمل العبيد في المزارع، أن كثيرا من العبيد الذين التقاهم في تجواله كانوا يتظاهرون بالغباء وعدم القدرة على فهم الأوامر الصادرة لهم مما كان ينتج عنده إفساد العمل وإهدار الوقت والأموال.
وقد فسر هو ذلك بأن العبيد كانوا ينتقمون على طريقتهم الخاصة من أسيادهم الذين كانوا لا يدخرون جهدا في إقناعهم أنهم كائنات دنيا تتسم بالغباء والشر، فكانوا بذلك يثبتون لسادتهم صحة رأيهم. ومن الجدير بالذكر أنه بعد إنتهاء العبودية رسميا في الولايات المتحدة بعد حرب أهلية مدمرة إختار آلاف من العبيد البقاء تحت سيادة ملاكهم مفضلين ذلك عن الحرية وما تجلبه من صعاب. ويبدو أن هؤلاء البشر من طول اعتيادهم للعبودية لم يستطيعوا استيعاب فكرة أن وقتهم قد أصبح ملك لهم.
وحتى بعد إنتهاء العبودية بشكل رسمي من العالم، كان على الفرد العادي أن ينتظر قرنين من الزمن حتى ينال من سادته وقتا كافيا ليشعر بالحرية. كان على السادة أن يفرغوا أولا من حروبهم الأهلية ومنازعاتهم الدينية، وكان عليهم أن يقيموا ثورتهم الصناعية، ويستعبدوا ملايين البشر في الحقول والمناجم وأمام الماكينات، وكان عليهم أن يشعلوا الحروب الاستعمارية والتحريرية في كل مكان في العالم، ثم يعودون ليبشروا بالحرية ويمجدون الفرد العادي، بل ويطالبونه بكل صدق وإخلاص أن يُعمل عقله وأن لا يهدر وقته فيما لا يفيد.
ورغم أن الإعلانات، مصدر القيم الأساسي في عصرنا، تطالبنا دائما بأن لا نهدر وقتنا، ورغم أن الشركات تتبارى في أن تقدم لنا خدماتها ومنتجاتها فائقة السرعة، ورغم أننا نستطيع أن نقطع في ساعات ما كان أسلافنا يقطعون في شهور، إلا أننا نشكو دائما من ضيق الوقت. ورغم أن المعرفة أصبحت في يد الجميع، إلا أننا نشكو دوما من أننا نحيا في عصر مليء بالجهل والتفاهة.
لقد كان ديكارت فيما يبدو محقا في قوله أن "العقل هو أعدل الاشياء قسمة بين الناس، فكل فرد يعتقد أنه قد أوتي منه ما يكفي". وهذا اعتقاد لا يمكن أن ينتج إلا عن الإرهاق الشديد، أو التظاهر بذلك.
التعليقات