لم يعرف كهنة مصر القديمة عبارة واحدة من العبارات الواردة في "كتاب الموتى" الذي ننسبه لهم، بل لعلهم لم يعرفوا أن بلادهم تسمى "مصر". ولم يحدث أن كتب الفيلسوف اليوناني "أفلاطون" أبدا كتاب "الجمهورية" أو كتاب "القوانين"، كما أنه لم يدون نقاشاته الفلسفية في كتاب إسمه "المحاورات". بل الحقيقة أن "اليونان" القديمة لم تعرف رجلا إسمه "أفلاطون"، ولم تعرف له أستاذا إسمه "سقراط" ولا تلميذا باسم "أرسطو". وكما لم يعرف "إقليدس" شيئا عن "مسلمته"، لم يدرك "فيثاغورث" أنه صاحب "نظرية".
أما "اليهود" من بني إسرائيل، والذين ضلوا في "التيه" قرونا، فلم يعرفوا أبدا أن الكتب التي تناقلوها من جيل لجيل حافظة لشريعتهم وتاريخهم قد منحها أسلافهم إسم "الأسفار". كذلك لم يكتب "شاؤول"، والذي عُرف لاحقا باسم "بولس" حرفا واحدا من "الرسائل" التي وجهت لأهل المدن تبشيرا بديانة "المسيح".
وعبر ألفي عام اعتنق مليارات من البشر "المسيحية". وفي سبيلها لاقي البعض الاضطهاد والعذاب وقابلوا الاستشهاد بصدور رحبة. ومن أجل رفعتها حارب البعض وتآمر وغزا البلدان وفتش في الضمائر وحرق الساحرات، لكن لا هؤلاء ولا أولئك اعتقدوا للحظة واحدة أن "روح الله وكلمته" يبارك أفعالهم.
ونحن نعرف كم تُباهي إيطاليا العالم بشاعرها العظيم "دانتي"، كما نعلم مقدار تفاخر انجلترا بابنها الأعز "شكسبير"، مع أن الأول لم يؤلف "الكوميديا الإلهية"، كما لم يكتب الثاني شطرا واحدا من "مأساة الملك لير". وحتى آخر يوم في حياته لم يعرف "ڨيكتور هوجو" أن في الأدب رواية إسمها "البؤساء"، ولا سمع "تشارلز ديكنز" يوما عن "قصة مدينتين" أو "أوقات عصيبة". وليس من اللائق أبدا أن ينال الروائي الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز منا أي تقدير أو هجاء لرواية "مائة عام من العزلة"، فهو بريء منها تماما براءة الأستاذ نجيب محفوظ من الرواية المسماة "The Harafish".
فيما عدا الكتاب الأخير المُترجم عن العربية والذي لا يمكن أن يُنسب لغير الأدب الانجليزي، فإن كل ما سبق من معارف بدءً من كتاب "في وضح النهار" المعروف شعبيا باسم "كتاب الموتى" وحتى رواية ماركيز الشهيرة، ومروراً بكل ما نعرفه وقرأناه من الآداب اليونانية والفارسية والصينية وآداب الغرب الحديثة وعلومه، هي معارف لا تنتمي لغير الآداب العربية. وقد انتقلت هذه المعارف عن طريق الترجمة لتُسهم في تكوين العقل العربي عبر العصور، تماما كما تسهم في تكوينه الآداب العربية الأصيلة بدءً من المعلقات الجاهلية وانتهاءً بالكتب "الأكثر مبيعا" التي تلقى رواجاً بين هواة القراءة. فكل ما يتم إبداعه في لغة معينة أو يتم ترجمته إليها يصبح جزءً من ثقافة الشعوب الناطقة بتلك اللغة وتراثها.
وقد لعبت الترجمة عبر العصور دورا في التقريب بين الشعوب والثقافات المتزامنة لا يقل أهمية عن الدور الذي لعبته، ولا تزال تلعبه، في التقريب بين عصور التاريخ المختلفة. فكما يستطيع اليوم القاريء الذي لا يجيد غير العربية أن يعرف شيئا عن القيم الأمريكية فيما يخص حقوق الإنسان أو الديمقراطية، يستطيع أيضا عن طريق الترجمة أن يعرف الكثير عن حروب إبادة سكان أمريكا الأصليين واستجلاب العبيد من قارة إفريقيا والمحاكمات المكارثية. كذلك يستطيع القاريء الانجليزي المعاصر الذي لا يجيد غير الإنجليزية أن يعرف الكثير عن معتقدات المسلمين إذا قرأ " The Quran"، كما يستطيع أن يعرف كثيرا من حكايات الشرقيين في العصور الوسطى لو وقع في يده نسخة من " The Arabian Nights".
كذلك تلعب الترجمة دورا هاما في ترجمة الأفكار النابعة من نفس اللغة ولكنها منتمية لعصور مختلفة. فنحن أبناء عصر لا يمكنه أن يفهم مرامي الشعر الجاهلي العربي دون أن "يترجمه" لنا متخصصون في اللغة العربية القديمة، ولا يمكن لقاريء يهودي معاصر أن يفهم تعاليم موسى إذا لم يترجمها له متخصصون في العبرية القديمة بشكل قابل للاستيعاب في العبرية المعاصرة. كذلك سيقف الإنجليزي المعاصر عاجزا عن العثور على البلاغة في أبيات "شكسبير" إن لم "تُترجم" إلى الانجليزية المعاصرة، ولن يفقه يونانيو اليوم حرفا من "الإلياذة" إذا لم يفك شفرتها لهم العالمون ببواطن اليونانية المندثرة.
لكن لم يكن كل ذلك ممكنا لو لم تكن اللغات المُترجم إليها تضاهي اللغات المُترجم عنها قوة وعافية. لم يكن من الممكن أن ينقل اليونان معارف مصر القديمة لو لم تكن يونانيتهم قادرة على استيعاب أفكار المصريين المتعلقة بالأخلاق والضمير والطب والهندسة. كذلك لم يكن من الممكن للعربية في عصر العباسيين أن تنقل عن اليونان لو لم تكن قادرة على هضم المنطق الصوري والمنطق الرياضي وفلسفة المثل. فالأفكار المستوردة النافعة كالبذور الغريبة، لا يمكن أن تنمو إلا في تربة قوية وعلى أيدي زراع مهرة، يعرفون كيف يحرثون أرضهم لتثمر ما لم تثمره من قبل.
والشعوب التي لا تطور لغتها ولا تعيد حرثها كما تُحرث الأرض تضع نفسها عرضة لبوار ثقافتها وانحطاطها. واليوم أصبحت لغتنا العربية بحاجة ماسة للحرث، فالحشائش الضارة تخنق البذور العفية وتعيق نموها. يقول الأديب الايرلندي "جورج برنارد شو" والذي عاصر الامبراطورية البريطانية في أوج مجدها: "إن عظمة وصفاء اللغة الانجليزية هي أعظم ممتلكاتنا كامبراطورية". ولقد فقدت بريطانيا كل مستعمراتها في العالم، لكن اللغة الانجليزية، بصفاءها ووضوحها وقصصها وأفلامها، لا زالت تحكم جزءا غير هين من عقل العالم وتشكل قيمه وأفكاره.
التعليقات