في أواسط القرن التاسع عشر كتب الفيلسوف الألماني "آرثر شوبنهاور" مقالاً قصيراً بعنوان "الضوضاء"، أرجع فيه مسؤولية تأخر الجنس البشري إلى الحوذي (العربجي في العربية الدارجة) الذي يقرقع بكرباجه في الهواء ليقطع على أصحاب العقليات العظيمة من المفكرين والعلماء حبال أفكارهم.
لاحظ "شوبنهاور" أن قرقعة السوط التي يحدثها الحوذي وهو يسوق عربته عبر طرقات المدينة لا تؤدي إلى إزدياد سرعة الحصان الذي يجر العربة. وفسر الفيلسوف ذلك بالحساسية العالية التي تتسم بها الكائنات الذكية تجاه الأصوات. فبعد آلاف المرات التي يستمع فيها الحصان لهذه القرقعة الفارغة لابد أن يكتسب تجاهها مناعة حصينة تجعله بمنآى عن التأثر بهاً. كما لاحظ أن كثيراً من الحوذية يقرقعون بسياطهم وهم يقودون على مهل عرباتٍ خالية من الركاب، لا لغرض غير جذب أنظار الزبائن، دون أن يؤدي ذلك بالطبع إلى أي إزدياد في سرعة الحصان.
وتكاد تشعر أن كبد شوبنهاور يتفتت وهو يتحدث عن الحوذي الذي يسير على قدميه بلا عربة وبلا حصان لكنه مع ذلك يصر على القرقعة بالسوط دون أدنى شعور بوخز الضمير، ولذلك فقد عد "شوبنهاور" السكوت عن مثلك تلك الممارسات ضرباً من الظلم والبربرية. ورغم أنه عاش في عصر تعالت فيه المطالبة بإلغاء العقوبات الجسدية، إلا أنه طالب المشرعين بوضع قانون ينص على أن يتلقى كل من يقرقع بالسوط خمس ضربات قوية بالعصا.
رأى "شوبنهاور" في العربجية محدثي الضوضاء الفارغة حجر عثرة في طريق تطلعات الإنسانية العليا، فقد كان الرجل ينظر للعقلية العظيمة كجيش قوي منظم، إذا تعرض للتقسيم إلى وحدات صغيرة من الجنود سيفقد قوته ويتشتت. كذلك الأفكار العظيمة إذا لم يسمح لها أن تحيا في تماسك واتساق لا تقطعه الضوضاء فإنها ولابد ستهبط بصاحبها إلى مستوى الإنسان العادي؛ مما سيفقد البشرية الكثير من المكاسب المحتملة.
ويعرب "شوبنهاور" في نهاية مقاله عن إزدرائه الكامل لأمته الألمانية واصفاً إياها ببلادة الحس لتسامحها مع عادة إستشرت في عصره، وهي قرع الطبل بلا سبب أو مناسبة. وقد علل غاضبا ذلك التسامح بأنه جزء من جهد كبير تبذله ألمانيا لمنع أي شخص من التفكير.
ربما كان "شوبنهاور"، كما يرى بعض مؤرخي الفلسفة، حانقاً على الأمة الألمانية لأنها لم تمنحه ما كان يعتقد أنه يستحق من التقدير والشهرة كفيلسوف عصره الأعظم. لكن قبل مرور قرن واحد على رحيله (1860) تولت عصابة النازيين أمر الأمة الألمانية (1932)، وأحدثت من الضوضاء الفارغة التي حذر "شوبنهاور" من تأثيرها ما لم تحدثه عصابة سياسية أخرى في تاريخ أوربا المعاصر. ومن المثير للسخرية أن تنال فلسفة "شوبنهاور" في عهد النازيين تقديرا عظيما، فقد كان هتلر يرى فيه واحداً من أهم الآباء المبشرين بالإنسان الأعلى؛ ذلك الكائن الوهمي الذي اعتقد "هتلر" أنه سيتجسد على يديه ليحكم به العالم.
لقد وجد هتلر في عمل شوبنهاور الأهم "العالم إرادة وفكرة" ما يدعم به ضوضاءه الفارغة ويبرر به جرائمه. كان "شوبنهاور" يرى أن الرغبات والمصالح الشخصية أقوى تأثيرا على حركة التاريخ من المنطق والمذاهب الفلسفية. وقد اعتبر أن إرادة المرء التي تدفعه لتحقيق غاياته هي المحرك الحقيقي للحياة. جاءت "إرادة الحياة" عند ذلك الفيلسوف المتشائم لتسبق الأخلاق والأيدليوجيات، ودعى الناس إلى التنقيب في دواخلهم عن إرادتهم الحقيقية المتوافقة مع رغباتهم ومصالحهم دون الخضوع لتأثيرات النفاق الأخلاقي المبتذلة.
استثمرت الدعاية النازية تلك الفكرة الداعية لتخليص عقل الفرد من الأوهام، وحولتها لمبدأ جوهري في عقيدتها السياسية القائمة على الوهم. بل ووجدت في "إرادة القوة" لفيلسوف آخر هو "نيتشه" امتدادا لشوبنهاور، وأوهمت جيلا كاملا من أبناء الأمة الألمانية أن العالم يسير وفق إرادتهم وأفكارهم، وأن عليهم استخدام القوة لتحقيق تلك الإرادة السامية.
ولكي تحقق عصابة النازيين أهدافها في غسل الأدمغة لجأت إلى أساليب العربجية الذين كان "شوبنهاور" يمقتهم ويطالب بضربهم بالعصا. ففي بحثهم المحموم عن زبائن لأفكارهم أخذوا يقرقعون بالسياط في كل مكان. أقاموا المؤتمرات وسيروا المواكب وألقوا الخطب النارية. جندوا الشباب والمراهقين في تنظيمات مغلقة وبثوا في عقولهم الكراهية لكل فكر مخالف.
ويبدو أن النازيين انتبهوا لمقولة "شوبنهاور" الذاهبة إلى أن السوقية هي النتاج الحتمي لو افتقرت الإرادة إلى الذكاء، لذلك فقد استمالوا السوقة بالعروض التي يعشقونها. فكما أقاموا المحارق للبشر أقاموها للكتب والكتاب. حرق النازيون في احتفالات مهيبة كتب أهم من أنجبت بلادهم من رجال الفكر. حرقوا كتب "كارل ماركس" الداعية للشيوعية، وكتب "توماس مان" الداعية لليبرالية والديمقراطية. حرقوا كتب "سيجموند فرويد" و"برتولد بريخت" وكل كتاب لا يبشر بالقوة، ذلك المفهوم الغامض الجاذب للسوقة.
سنوات قليلة سيطرت فيها ضوضاء العربجية على آذان وعقول الشعب الذي أخرج للعالم أكبر عدد من الفلاسفة والعلماء والشعراء. تم السيطرة على الجامعات والصحف والإذاعة، وبينما تمكن قليلون من مفكري ألمانيا الأحرار من الهرب، لزم أغلبهم بيوتهم والتحفوا بالصمت. وما ألمح له "شوبنهاور" قبل ثلثي قرن من أن ألمانيا تبذل جهودا مضنية لمنع أي شخص من التفكير، أصبح حقيقة واقعة. فعادة قرع الطبول بلا سبب التي أبدى تعجبه منها أصبحت الوسيلة الفعالة للسيطرة على العقول وتهيئتها لخوض الحرب المجنونة. لقد أصبحت الضوضاء إرادة وفكرة.
وبعد الهزيمة المذلة وزوال دولة العربجية، نهضت ألمانيا ثانية معتمدة على تراثها العظيم من العلم والفلسفة والفن. وما المعجزة الألمانية إلا انتصار لإرادة الحياة التي بشر بها "شوبنهاور"، والتي تعلي من قدر المصالح الحقيقية والرغبات الفردية في عيش حياة أفضل، ولا تكترث للأوهام الخاضعة للسوقية وأيدليوجيات النفاق المغيبة للعقل.
التعليقات