1
يقع لقاء غير مرتب بين رجل قارب سن المعاش يعمل مديراً للمستخدمين بإحدى المصالح الحكومية، وأرملة في الخمسين تأتي لمكتبه لإنهاء بعض الأوراق الخاصة بمعاش زوجها. يتعرف الرجل في الأرملة على حبيبة شبابه الأول والتي لم يُقدر له الإقتران بها. يتعامل معها باحترام وود وتنصرف الأرملةُ على وعد من حبيبها القديم بأن يبذل جهده لإنهاء مصلحتها وتتركه فريسةً لذكرياته.
يتذكر الرجل كيف داعب الحب قلبه للمرة الأولى تجاه تلك الفتاة العذبة، والذي كان إنتماؤها لبيت ساءت سمعته في الحي مانعاً له من إسعاد قلبه بالزواج منها. ويتذكر أيضاً رجل ستينيات القرن العشرين الأسباب التي أدت إلى أن يوصُم بيتُ حبيبته بالعار في العشرينيات من ذات القرن، والتي حتمت على أهل الحي أن يقرنوا ذكر هذا البيت بالرذيلة. وقد تلخصت تلك الأسباب كما يتذكرها بطلنا في أن أم حبيبته كانت من أوائل النساء اللائي خلعن البرقع وسرن في الطريق سافرات.
كذلك لم يتحمل أهلُ الحي، والذي كان بطلنا بالطبع واحد منهم، حقيقة أن سكان البيت سيىء السمعة كانوا يستقبلون أقاربهم من الجنسين في الأعياد والمناسبات العامة. ولم يجد الجيران تفسيراً لهذا السلوك الذي يبيح الاختلاط بين الجنسين، غير أن صاحب البيت وزوجته (والدا حبيبة البطل) يديران منزلهما لأعمال الدعارة ويقدما بناتهما للزبائن. وقد تأكدت هذه القناعة نتاج سلوك آخر لا يقل شذوذاً تمثل في أن رب الأسرة كان لا يجد غضاضةً في اصطحاب زوجته وأولاده عند التنزه في الأماكن العامة.
يتذكر البطل أيضاً اللقاء الوحيد الذي جمعه بحبيبته بعد فاصل دام أسابيع من تبادل النظرات الحانية والابتسامات المسروقة. ويتذكر كيف اقترحت حبيبته أن يمضيا إلى حديقة الحيوان، بينما هو كان حريصاً على الذهاب بها إلى مكان لا يراهما فيه أحد. ويتذكر كيف أخبرته حبيبته بأنها قد صارحت أمها بذهابها للقاءه، بينما أخفى هو هذا "السر" عن الجميع. وعندما أبدى هو تردداً وتلعثماً عندما طالبته بالتقدم لخطبتها، لم تتردد هي في مصارحته بأنها كانت تتوقع ذلك. فقد أكدت لها أمها عندما علمت بذهابها للقاء هذا الشاب أنه لن يجرؤ على تحدي الأفكار الشائعة. وتنتهي قصة الحب بانتصار السمعة السيئة على الشجاعة.
ويتأمل الرجل الموشك على التقاعد كيف كان يشارك كل أهل الحي عجبهم لزواج كل فتيات البيت سيىء السمعة بأزواج يفوقون كل شباب الحي تعليماً ومكانة، دون أن يجدوا تفسيراً لهذا الحظ الرائع الذي يتحدى المنطق. وفي النهاية يتذكر رئيس المستخدمين الكهل أن عليه القيام للاستعداد لسهرة مع أسرته دعاهم لها زميل إحدى بناته في العمل، ويبتسم الرجل لحقيقة أنه قبل مع أسرته دعوة هذا الزميل رغم أن لا علاقة رسمية تربطه بابنته بعد.
2
"بيت سيىء السمعة" قصة قصيرة قليلة الأحداث يلخص فيها الأستاذ نجيب محفوظ بعبقريته الصافية إحدى جوانب مأساة العقل التقليدي. بجنوح هذا العقل المستمر للمحافظة على ما يعرف ومعاداة كل ما يجهل يضع نفسه تحت عجلات قطار الزمن.
يعلمنا الأستاذ كيف أن العقل التقليدي بعجزه عن رؤية قوى التطور وهي تفعل فعلها في المجتمع، قد يحرم أصحابه من سعادة هي حقٌ مباح لهم. ورغم أن السلوكيات الاجتماعية قد تغيرت كثيراً عن الزمن الذي كتبت فيه القصة (الستينيات) أو الزمن الذي تدور فيه أحداثها الجوهرية (العشرينيات) إلا أن العقل التقليدي لا زال يتحصن بذات الخنادق في مواجهة التطور.
لا زال التقليديون يصفون المغايرين بسوء السلوك، ولا زالوا يجدون في العيش وفقاً لما يجنبهم الصدام مع قوى التغيير تعويضاً عن البقاء في مؤخرة الصفوف. فرغم كل ما مر من تجارب ثريةً على مصر في نصف القرن الأخير لازالت السمعة السيئة تلتصق بالأفكار الجديدة.
لا زالت الأفكار التقليدية فيما يتعلق بالحب والزواج والإنجاب والتعليم والعمل والفن تتحكم في مقدرات قطاعات كبيرة من المجتمع. لا زال هناك من يرون في تعليم البنات مفسدة، ولا زال هناك من يرون في الحب رذيلة، ولا زال هناك من يعتبر كثرة الأبناء سند، ومن يرون في الزواج المبكر صيانة للشرف. والمضحك أن لازال هناك من يقيمون النساء وفقاً لمعايير أهل الحي في القصة السابقة، في زمننا الذي يصعب فيه على أي فرد إدعاء الفضيلة الكاذبة أو كتمان الخطيئة، لازال هناك من يظنون أن بامكانهم مقاومة التطور بنفس الخطاب القديم في الدين أو السياسة.
بينما تنطلق شرائح مجتمعية نحو الأمام بسرعة الصاروخ، تتراجع شرائح أخرى للخلف بنفس السرعة. وتتسع الهوة بين العالمين نتيجة لفروق التعليم ونمط العيش والأفكار المكتسبة من الفن والثقافة، فكأن قد أصبح في البلاد شعبان لا شعب واحد. فالأسرة سيئة السمعة في قصة الأستاذ تمكنت من الترقي الاجتماعي ومصاهرة طبقة أفضل وغادرت الحي، إشارة لصعوبة التعايش بين الجديد والقديم.
تبدو الأفكار الجديدة دوماً سابقةً لزمنها، لكنها في الحقيقة ليست كذلك. كل الأفكار التي دفعت المجتمعات للأمام في كل العصور جاءت في موعدها تماماً ونتاجاً حتمياً للزمن، وكلها عانت في البداية من سوء السمعة. الزمن آلة بناء وسحق، وفرزٍ أيضاً، ولذلك كان تأثير الزمن دائماً ـ وليس المكان ـ هو البطل الرئيسي في أدب نجيب محفوظ كما ألمح هو أكثر من مرة في حواراتٍ عابرة.
نُشرت مجموعة "بيت سيء السمعة" عام 1965، ولا زالنا نقرأ في أخبار الحوادث عن فتيات تم قتلهن على أيدي أسرهن لشكهم في سلوكهن، وفي أغلب الأحوال يكون الشك نتاجا لشائعات أهل الحي. فـ"السُمعة" بحسنها وسيئها مشتقة من "السماع"، لذلك تكتسب أهمية كبرى في الأوساط التي تفكر بآذانها.
التعليقات