كنا في طريق العودة للبيت بعد ما يقرب من أربعة ساعات أمضيناها في التدريبات الرياضية بالنادي. كان الطريق منساباً، وهبت نسمات خريفية لطيفة لتمنح يوما مضجرا نهاية لا تخلو من بهجة. في المقعد الخلفي بالسيارة إنهمك إبني الذي تجاوز السابعة بقليل في ارتشاف عصيره المفضل. كان من عادته أن يبدأ الثرثرة بمجرد ركوبنا للسيارة. عادة يسألني عن رأيي في أداءه الرياضي ويلفت نظري لما يكون قد فاتني من لمحاته العظيمة. في ذلك المساء بالذات توقعت أن لا يتوقف عن الحديث عن بطولاته حتى نصل للبيت. كان مدرب حراسة المرمى قد أثنى على شجاعته في الارتماء على الأرض لصد الكرات الزاحفة، بينما أمر مدرب ألعاب القوى بقية الفريق بالتصفيق له لإجادته القفز فوق الحواجز.
آه يا صغيري.. لابد أن النشوة الآن تكاد تملأ عقلك الفارغ. خمنت هذا وأنا أراقب في مرآة الزجاج الأمامي استغراقه في التفكير العميق المصحوب بصوت ارتشاف قطرات العصير الأخيرة. سيكون علي الآن كأب أن أمارس دوري الكريه في ترويض غروره وتذكيره أن هناك دوماً من هم أفضل منه. أمقت هذا الدور لكن ما باليد حيلة. أفضل للإنسان أن يكبر مدركا لحقائق العالم المحبطة من أن يصبح فريسة للأوهام المعسولة.
ـ لقد عرفت ماذا سأكون عندما أكبر.
قالها وقد احتل واقفا المسافة الفاصلة بين المقعدين الأمامين والمقعد الخلفي، ذلك هو مكانه الأثير لخوض مناقشاته المصيرية معي. أجبته بخفة لا تتلاءم مع جدية نبرته:
ـ أعرف.. ستصبح حارس مرمى.
ـ طبعا لا.. (ثم استدرك مسرعاً حتى لا يتورط في أن يشرح لي سبب خطأ تخميني).. تعرف حرب أكتوبر؟
حرب أكتوبر؟ انتبهت على الفور أننا في بدايات الشهر وأنهم لابد قد ذكروها للتلاميذ في المدرسة. شعرت بارتياح ما، فرغم أن ابني لا يرتاد مدرسة حكومية، إلا أنه سيعلم شيئا عن واحد من أهم الأحداث في تاريخ بلاده.
ـ أعرف عنها بعض الأشياء. "أجبته".
ـ أنا أعرف عنها كل الأشياء!
إنتظر صامتا في غضب مكتوم حتى انتهي من قهقهتي كما يليق بإبن يمنعه تهذيبه من انتقاد سلوك أبيه الشائن. غالبت ضحكي وحاولت أن أبدو جادا قدر استطاعتي حتى يفرغ ما جعبته كاملا.
ـ آسف.. ما هي "كل الأشياء" التي تعرفها عن حرب أكتوبر؟
ـ مصر أقوى بلد في العالم.
ـ (....)!!
ـ سأشرح لك..
ـ ياريت..
ـ جيش الأعداء كان أقوى جيش في العالم..
ـ الأعداء؟ تقصد إسرائيل.
ـ آه.. هؤلاء.. وجيش مصر هزمهم في حرب أكتوبر، إذن جيش مصر أقوى جيش في العالم. Really Simple. ويوم 6 أكتوبر هو أعظم يوم في مصر..
ـ تقصد في تاريخ مصر.
ـ آه.. تعرف لم "كسب" جيش مصر الحرب؟
ـ لأنهم كانوا "صائمين"؟
ـ صح! كيف عرفت؟؟
ـ أخبرتك أني أعرف عن الحرب بعض الأشياء. قل لي أنت، ماذا تعرف عن حرب أكتوبر أيضا؟
ـ جيش مصر كانوا شجعانا جدا، أتدري، أنا قررت أن أصبح جيش عندما أكبر. فهمت؟
ـ تصبح "جيش"؟ أنت وحدك ستصبح جيش؟
نفخ في ضجر:
ـ لأ طبعا.. يعني واحد في الجيش. Officer.
ـ هذا قرارك.. لكن لم تريد أن تصبح ضابطا في الجيش؟
ـ لكي أحارب؟
ـ تحارب من؟
باغته السؤال، تفكر قليلا قبل أن يجيب بسؤال:
ـ من أقوى جيش في العالم الآن!؟
ـ أنت قلت منذ قليل أنه جيش مصر.
ـ آه فعلا.. سأبحث عن جيش قوي جدا آخر وسأحاربه وأنتصر.
ـ ولم تريد أن تفعل ذلك؟
ـ سؤالك عجيب جدا!
ـ كيف؟
ـ لكي أصبح بطلا!
ـ لكن في حربك سيموت كثير من "الأولاد" الآخرين، من جيشك وجيش البلد الأخرى. موافق؟
ـ أوكي.. سأقول لجنودي أن يصيبوهم فقط دون قتل.
ـ هذا شيء طيب. لكن ماذا عن جنود البلد الأخرى! سيقتلون جنودك.
ـ سنتفق معهم قبل الحرب أن لا يموت أحد.
ـ مستحيل.
ـ كيف مستحيل؟ سنتفق معهم اتفاق Gentleman.
هنا وجدت أن علي التوقف فورا عن مسايرته واستخدمت سلطتي الأبوية في إسكاته. مهما بدت له الحقائق مريرة كان على الصغير أن يعرف أن الأبطال لا يخوضون غير الحروب العادلة. كان عليه أن يعرف أن الحرب شر وموت وترمل ويتم وفقر. كان عليه أن يفهم أن صغارا في مثل عمره أو أصغر قد فقدوا أباءهم، وأن شبابا في السن الذي لا يطيق هو صبرا حتى يبلغه قد ذهبوا لميادين القتال ولم يعودوا لأمهاتهم أبدا. أمهات كأمه التي تنتظره الآن لتقدم له العشاء وتضعه في الفراش الدافيء. كان عليه أن يعرف أن جنود بلاده قد خاضوا حرب أكتوبر تأدية لواجب وليس سعيا وراء مجد. أخبرته أن آلاف الرجال الذين ماتوا كان يمكن لهم أن يمتد بهم العمر ليصبحوا في عمر جده، يقضون ما تبقى من أوقاتهم في تدليل أحفاد مثله. كان عليه أن يعرف أن الحرب هي الجحيم وأن الحياة هي السلام.
لم أعبأ كثيرا بأن يفهم كل ما قيل له. ستتسلل له بعض المعاني لا شك، ومع الزمن سيدرك جوهرها. شعرت في داخلي بالحنق على نظام التعليم الذي يخلط بين حقائق التاريخ وبث حب الوطن في نفوس الصغار. نفس النظام الذي جعلني منذ ما يقرب من أربعين عاما خلت أن أطلب من خالًي الذين شاركا في الحرب أن يقصا لي عن بطولاتهما في ميادين القتال. وقد أخبراني بما يكفي لأن أصبح مثلهما، محبا للسلام وكارها للحرب.
المجد للشهداء ولك يا مصر ولابني ولكل أبناءك السلامة.
التعليقات