"يجدر به منذ الساعة أن يولي نفسه ما تستحق من الاحترام، أن يتعجب ويتساءل، أن يحكي الحكاية لكل من هب ودب، أن يبحث لها عن تفسير. لقد وقعت معجزة، وقعت ببساطة بين جدران حانة.."!
هكذا حدث كاتب الحسابات الأربعيني نفسه وهو يجلس وحيداً يرتشف النبيذ في حانة ممتلئة بالسكارى. كان الرجل الذي أنعشت كؤوس النبيذ نفسه قد قرر أن يعبث قليلاً. سأل الجرسون إن كان يعرف شخصاً إسمه "محمد شيخون الماوردي" متعللاً أنه من زبائن الحانة المستديمين وأنه يريده لأمر هام. بالطبع لم يكن كاتب الحسابات يعرف شخصاً بهذا الإسم. لكن بعد دقائق سمع كاتب الحسابات صوت مدير الحانة وهو ينادى على "محمد شيخون الماوردي"حيث أن هناك من يطلبه على التليفون.
بُهت الرجلُ من المفاجأة! من أين له أن يدري أن هناك رجل بهذا الإسم العجيب! لعلها مصادفة عجيبة مما يقع في الحياة.
إبتسم له الجرسون لأن شخص آخر في دقائق معدودة يسأل عن نفس الإسم الذي سأل هو عنه. ظن أن الجرسون يعابثه لكنه طرد هذا الخاطر من رأسه سريعاً. أنهى دورق النبيذ وهو مشغول بتفسير الحدث الجلل. دنا منه الجرسون ثانيةً فسأله بلا ترتيب مسبق إن كان يعرف شخصاً إسمه "زيد زيدان زيدون". أنكر الجرسون معرفته بالرجل وذهب لحال سبيله ليعود بعد دقائق ليعلمه أن صديقه "زيد زيدان زيدون يطلبه" على تليفون المدير!
ذهب للتليفون مترنحاً من هول المفاجأة (والخمر) ليسمع صوت رجل يسأله عما يريد منه ويقدم نفسه له كزيد زيدان زيدون. وضع السماعة مرتعباً بعد أن أجاب إجابةً نمطية لا تثير شكوك من حوله وانطلق للطريق منتشياً باكتشافه لموهبة دفينة. إنه قادرٌ على التنبؤ!
لم يجد عند زوجته إنبهاراً بتلك الموهبة التي ترفعه لمصاف الأولياء الصالحين. خمنت المرأة أن الأمر لا يعدو كونه مصادفة. أقنع نفسه أن "قسوة المعيشة قد أفسدت تفكيرها وألصقتها بتوافه الأرض". وجد سلواه عند شيخ الزاوية التي يصلي بها كل جمعة. إستمع له الشيخ في اهتمام وطلب أن يعيد على مسامعه الحادثة مرات. "فيك شيء لله.."، أكد الشيخ ذلك وهو ينبهه إلى أن وقوع المعجزة في حانة ما هي إلا إمتحانٌ وتحذير. نصحه الشيخ بأن عليه أن يستثمر كنزه لخير الناس. حكى له سير بعض الأولياء ونوه ببعض الكتب التي يجدر به مطالعتها!
أهمل عمله وتوقف عن الكتابة على الآلة الكاتبة التي كانت تدر عليه دخلٌ إضافي يعينه على مشاق الحياة. إنهمك في القراءة والتأمل رغم ما كلفه ذلك من مال "لم يكن يملك فائضاً منه، ومشقة في الاستيعاب ولم يكن مدرباً على القراءة العسيرة". ساءت أحواله واشتكت زوجته لكن لم يعرها اهتماماً.
"ولكنه عرف سبيله ولن توقفه قوة. هناك أمل، عند الأفق، وراء حياته الذابلة التافهة الجدباء، أمل يعده بالقوة والنور والامتياز، سيتحول الشخص المسكين إلى شخص نوراني باهر يأتي بالمعجزات وسوف يوارى بعد عمرٍ طويل في ضريح مبارك".
وبعد أن طال بكاتب الحسابات عهد القراءة والتأمل قرر أن يجرب موهبته. ذهب إلى مقاهي وحانات يسأل عن أسماء غريبة لكن جرس التليفون لم يأت في أي مرة ليعلن عن وقوع المعجزة. ساورت نفسه الشكوك فقرر التوجه إلى ذات الحانة التي وقعت بها المعجزة الأولى والتي كان يتجنب المرور بقربها دوماً. جلس وطلب نبيذاً ليساير الجو. أخذ يغالب اليأس والأمل وهو يتطلع لوجوه السكارى، وفي تلك الأثناء حدثته نفسه بأن أحد رواد الحانة سيسقط ميتاً. وهنا وقعت المعجزة الحقيقية!
إقترب منه أحد السكارى العابثين ودار بينهما حوار قصير عرف منه كاتب الحسابات أن في الليلة التي سأل فيها الجرسون عن الإسمين الغريبين كان هذا السكير يجلس مع أصدقائه على مقربة منه. عرف أن السكير هو من اتصل بهاتف المدير من الخارج مرتين، مرة ليسأل عن شيخون وفي المرة الثانية كان هو من حادثه منتحلاً إسم زيد زيدان زيدون. في تلك الليلة ضحكوا عليه من أعماقهم كما يجدر بسكارى وجدوا صيداً ساذجاً. أعمى غضب الحقيقة عينا الطامح للولاية فقذف السكير بزجاجة خمر، فما كان من السكير إلا أن تناول شوكة وغرسها في رقبة كاتب الحسابات ليرديه قتيلاً. تحققت النبوءة ومات أحد الزبائن!
لعبت الخمر دورها في وفاة هذا الرجل (الذي ربما لا يكون جديراً بالشفقة) كما ساهمت في ذلك الكتب. الخمر زينت له أنه قادرٌ على العبث بالآخرين والسخرية منهم. كذلك زينت له الكتب القليلة التي طالعها أنه قادرٌ على السير في دروب الأولياء والصالحين. لكن ما قتل الرجل كان غروره. تناوله "العارض" للنبيذ في حانة مليئة بالمعربدين لا يجعله مؤهلاً للعربدة والسخرية من حماقات البشر. كذلك الكتب قد تكون أكثر إضلالاً للعقل من كل براميل الخمر المعتقة إن ظن المرء أن بمطالعته القليل منها دون فهم وتراكم معرفي كفيلٌ بكشف الحقائق.
لم ينصت الرجل لمنطق زوجته الرافض لأوهامه، وطربت أذناه لشيخ الزاوية الذي صدق ترهاته دون أن يحاول أن يجد لها تفسيرا. إنساق وراء مجد لا يستحقه، رغم أن السخرية منه كانت جلية من اللحظة الأولى. بطل القصة نموذج جليٌ للإنسان الذي يتوسل أي سبب ليمنح نفسه أكثر مما تستحق كما يعبر الاقتباس الوارد في بداية المقال.
نموذجٌ هذا الإنسان في حد ذاته معجزة تتكرر عبر العصور دون أن نجد لها تفسير. لعلها مأساة الطموح الذي تقهره قلة الكفاءة والموهبة. لعلها لعنة الإنسان الأبدية بين القناعة والطمع. لعلها كل الأشياء ولعلها لا شيء البتة.
ما سبق قليل من كثير يمكننا أن نتأمله في قصة "معجزة" المنشورة في مجموعة "خمارة القط الأسود" للأستاذ نجيب محفوظ. وبينما تحل اليوم الذكرى الخامسة عشر لوفاته، إلا أنه لا زال قادرا على منحنا الفهم الأكثر معاصرة لحياتنا وواقعنا.
التعليقات