المقصود بـ "حارسة النيل" هو تمثال "ممشى أهل مصر" الذي اتخذ مكانه مؤخرا على ضفة النيل المواجهة لمنطقة وسط البلد. التمثال من تصميم وصنع النحات أحمد موسى، الذي تربطني بزوجته الكاتبة سارة هجرس علاقة زمالة وصداقة. وقد قمت باستغلال هذه الصداقة لأحظى بما يقرب من ثلاثة ساعات كاملة قضيتها مع الرجل في حوار متشعب حول التمثال وحول فن النحت الذي أحمل له، ككثير من المصريين، تقديرا خاصاً.
من مراحل صناعة نموذج التمثال
السطور التالية ستكون محاولة لتلخيص الفكرة الأساسية التي سعى "موسى" للتأكيد عليها في حوارنا، وهي علاقة الزمان والمكان بالأعمال النحتية المعروضة للجمهور في أماكن عامة. لا يخص كاتب السطور فيما يلي سوى فهمه "الخاص" للرسالة التي يحملها التمثال. فقد رأيت في السيدة الجالسة في سكينة على ضفة النهر بينما ينساب الماء من بين يديها تأكيدا على أن مصر لن تفرط أبداً في قطرة واحدة تراها حقها في مياه النهر. وقد أكد "موسى" أنه لم يقصد تلك الرسالة، بل أكد أنه لا يرى أن على الفن أن يحمل بالضرورة رسالة محددة. وعندما سألته لم لَم يمنح تمثاله إسما أجاب أن من عادته أن يفكر طويلا في الأسماء التي يمنحها لأعماله الفنية، فينتهي به الأمر دائما إلى خروج الأعمال للنور دون إسم محدد. هنا أجد من حقي، كأي متلق آخر، أن أمنح العمل الفني الإسم الذي أجده معبراً عنه أكثر من غيره. والحقيقة أنني لم أجد في التسمية الشائعة "تمثال ممشى أهل مصر" انعكاسا لجوهر التمثال. فالممشى "مكان" تم تطويره حديثا على كورنيش القاهرة، لم يكن موجودا فيما سبق، وربما ستتغير ملامحه مع "زمان" آخر كما تغيرت كثير من ملامح القاهرة وملامح مصر عبر الأزمنة. أما النيل فهو "المكان"، بل لعله هو "الزمان" أيضاً. النيل هو الملمح الذي لا يتغير. النيل هو مصر. على صفحة مياهه كُتبت تواريخ الحضارة والانحطاط، ومع أمواجه الهادئة جاءت العصور وذهبت. وسوف يستمر النيل في جريانه حارسا لمصر، وسوف تستمر مصر حارسة للنيل، هذا قدر لا اختيار.
النحات أحمد موسى جوار تمثال مول مصر
أثر المكان
"يمثل الموقع قيمة أكبر من مجرد مكان لعرض العمل النحتي، بل هو مكون أساسي من مكونات العمل الفني لا يمكن تغييره أو استبداله، بل في معظم الأحيان يكون الموقع هو المحفز والباعث وراء العمل الفني".
هكذا أشار الدكتور أحمد موسى لأهمية الموقع في مقدمة رسالته للدكتوراة التي حصل عليها منذ سنوات قلائل. حملت الرسالة عنوان "القيم الفنية الخاصة ببعدي الزمان والمكان في أعمال النحت البيئي". وقد واتت الفرصة مدرس النحت الميداني بكلية الفنون الجميلة لكي يضع قناعاته النظرية محل التطبيق، عندما تم تكليفه بتقديم تصميم لتمثال يهدف لتجميل منطقة ممشى أهل مصر بعد تطويرها. يؤكد "موسى" أنه أراد أن يعبر عن روح التطوير التي لمسها في الموقع، وفي نفس الوقت أراد أن يستلهم روح النحات المصري القديم الذي يراه "موسى" لا زال متربعا على عرش هذا الفن. ولأن المكان هو النيل جاء قراره بصنع تمثال لسيدة جالسة في سكينة بينما ينساب الماء من بين يديها في دعة. " لا يمكن للتمثال أن يعبر عن فكرتين. أستطيع أن أصنع تمثالا لرجل يعمل في إصرار، لكن فكرتي ستعاني من التشتت لو حاولت أن أظهر أنه يعمل في إصرار لكنه يشعر بسعادة". هكذا فسر "موسى" اختياره للجلسة الساكنة لسيدة التمثال. استلهم السكون والوقار من النحت المصري القديم، وقرر أن يصنع التمثال من شرائح الحديد تعبيرا عن العصرية. "لو كنت صنعته من الحجر لما تمكنت من إضافة عنصر الماء المنساب من بين يدي السيدة. ليس هذا فحسب، الحجر أو الجرانيت كانا سيجعلا التمثال أقرب للكلاسيكية، لا أجد هذا ملائما لروح العصر. من خلال شرائح الحديد يمكن للمارة أن يرون النيل متداخلا مع جسم التمثال. الصور للأسف يصعب عليها أن تبرز هذا، لكن المعاينة عن قرب تمنح المتلقي إحساسا أن السيدة سابحة بين الماء والهواء، وهو معنى فني قصدت إبرازه، الموقع منحني هذه الميزة بكل تأكيد. فتقنية استخدام الحديد في الأعمال النحتية جديدة في مصر وسبق لي استخدامها في تمثال "مول مصر" وهو بالطبع ليس بضخامة تمثال الممشى. لذلك لم أتردد في اقتراح هذه التقنية على المسؤولين وسعدت بموافقتهم على استخدامها رغم ما يحمل ذلك من مغامرة".
النموذج المصغر للتمثال
في ذات السياق سألت "موسى" عن رأيه في الاقتراح القائل بإخراج التماثيل المصرية القديمة من بطون المخازن ونصبها في الشوارع والميادين العامة لإضفاء روح جمالية على الأماكن وتذكيرا للجمهور بتراثه الفني العريق. أجاب دون أي مواربة: "التماثيل المصرية لا شك في عظمتها، لكن تماثيل الشوارع والميادين والمواقع المفتوحة بصفة عامة يجب أن يكون غرضها الأساسي هو التجميل الهادف. لكي يتحقق هذا الغرض لابد أن يتوافق التمثال جماليا مع مكونات المكان الحضارية. هذه المكونات تتمثل في العمارة و"اللاند سكيب" كمزروعات وأشجار، بالإضافة للأعمال الفنية. لا تصلح كل الأماكن حاليا لاستقبال الأعمال القديمة، فقط ما يتوافق منها مع مكونات المكان". وهنا ينتقل الحديث بنا للحديث عن تأثير عنصر الزمان في الأعمال النحتية بالمواقع المفتوحة.
فعل الزمان
"ألمس الآن اهتماما مؤسييا بفن النحت. فأنا شخصيا قد تم تكليفي قبل تمثال الممشى بإقامة تمثال للجندي المجهول بمدينة الأقصر. هناك فيما يبدو حرص على إحياء هذا الفن الذي عاني من الإهمال لفترة طويلة. أرى الظروف الآن مواتية أكثر لشيوع هذا الفن الذي أعتقد أن المصريين شغوفون به. هناك طرق عديدة يتم إنشاؤها، وتجمعات سكانية حديثة، هناك شركات عصرية ومؤسسات تابعة للدولة أو خاصة، هناك كومباوندز يتم بناؤها على الأساليب الحديثة. لديك العاصمة الإدارية الجديدة. أظن لو تبنت كل مؤسسة وطنية أو خاصة فكرة إقامة تماثيل تعكس هويتها والفكرة من نشاطها سيؤدي ذلك إلى تطور كبير لفن النحت. المصريون يحبون المنحوتات منذ قديم الأزل. عروسة المولد والحصان الحلاوة و"شكوكو بجنيه" أدلة على ذلك. قد لا يتمكن كثيرون من اقتناء التماثيل والمنحوتات الغالية الثمن، لكن هل تتذكر دمية العروسة التي كانت تزين الصالونات في الجيل السابق؟ كانت بديلا عن التمثال. أنظر كم المحلات التي تبيع المجسمات الرخيصة والغالية، الأصلي منها والمقلد. كل ذلك يؤكد على شغف المصريين بهذا الفن. الدليل الأكبر أننا نعيش في زمن يهتم بالفنون النحتية هو كم الاحتفاء أو النقد الذي تناله الأعمال النحتية على وسائل التواصل الاجتماعي. المصريون لا يرحمون أي عمل لا يرقى في رأيهم لما يملكونه من تراث نحتي عظيم تركته لنا مصر القديمة. نحن في دواخلنا نشعر أننا نملك هذا الفن".
تمثال الجندي المجهول بالأقصر
لم يفت "موسى" أن يؤكد على أن النحت الميداني فن صعب عالي التكلفة. النحت تتطلب ممارسته للكثير من المراحل والأدوات والمساعدين المتخصصين، ويحتاج لمكان ذي مواصفات خاصة يعمل فيه الفنان ويجرب حتى يصل لنتيجة يرضاها. لذلك كان النحت من أكثر الفنون عبر الزمن ارتباطا بالسلطة، سياسية كانت أم اقتصادية. والحقيقة أن النهضة بالفنون أيا كان نوعها ليست مسؤولية الفنانين وحدهم، بل هي مسؤولية مشتركة بين الدولة أو الهيئة الخاصة الداعمة والفنان والجمهور. للأسف لا تتسع المساحة لسرد كل ما تطرق له الحوار مع "موسى" حول تاريخ النحت المعاصر في مصر وأهم الفنانين الذين تأثر بهم وعلى رأسهم بالطبع "محمود مختار" صاحب نهضة مصر، التمثال الأبرز في شوارعنا.
النحات أحمد موسى جوار تمثال الممشى
في النهاية أتوجه بجزيل الشكر للفنان المصري "موسى" على وقته، وأهنئه على عمله البارز الذي أتى ليؤكد أن توفير الامكانيات للفنانين الأصلاء ومنحهم الحرية في التعبير عن ما بدواخلهم من أفكار ورؤى يصب دوما في مصلحة الوطن. فالفن الأصيل كان، ونتمنى أن يبقى، نافذة مصر المفتوحة على العالم، نستطيع من خلاله أن نرى صفحات الماضي والمستقبل، تماما كما نستطيع أن نرى صفحة النيل من خلال شرائح تمثال حارسته الحديدية.
التعليقات