من 18 سنة كنت طالباً دكتوراه في جامعة باريس في فرنسا وكنت في القنصلية المصرية في أوائل شهر أكتوبر لإتمام بعض الأوراق الخاصة بدراستي وكان العاملون يتحدثون عن احتفال مهيب بمرور 25 سنة على نصر أكتوبر سيتم في مبنى الملحق العسكري يحضره شخصيات عامة مصرية والدبلوماسيين العرب في باريس. كنت منبهراً بسماع الأسماء التي سوف تُشارك في هذا الحفل وسألت أحد الإداريين في السفارة إذا كان من الممكن أن أشاهدهم وهم يدخلون الاحتفال. وقالت لي بلطف: هل لك أي قريب رتبة في الجيش؟ أجبت إن عمي الدكتور مجند أحمد حجي كان شهيداً عسكرياً في جبهة قناة السويس عام 1972 في حرب الاستنزاف. وجُند في القوات المسلحة عام 1968، وكان يتولى الشؤون الطبية في الكتيبة التي خدم بها على جبهة القناة بالجيش المصري حتى يوم استشهاده، فضحكت بلطف وطلبت من ضابط الأمن أن يرشدني أين أستطيع أن أقف في الرصيف المقابل لمبنى الملحق العسكري في باريس لمشاهدة كبار المدعويين حين وصولهم. وبالفعل ذهبت في اليوم التالي ووقفت على الرصيف المقابل في المطر أشاهد تلك الشخصيات الهامة التي أسمع عنها فقط في التلفزيون.
الفنان التشكيلي الكبير محمد حجي خلال فترة تجنيده في القوات المسلحة المصرية
وبعد قليل أُغلق الباب فهممت بالذهاب وبدأت بالتحرك وإذا بموظف الأمن يناديني ويفتح الباب ويدعوني للدخول، فدخلت وأمرني بالانتظار ووقفت أنتظر وأنا أنظر للقاعة المليئة بالضيوف.
وفجأة ظهر الملحق العسكري وقال لي بصوت فيه نبره من الشدة والحزم: "إنت واقف بره ليه و بتعمل إيه" . أجبته أنني ليس لدي دعوة للحضور ولكني فقط أردت أن أرى تلك الشخصيات المصرية المرموقة، وأحضرت معي مذكرات عمي التي طُبعت في طبعة بسيط وبدائية لأهديها لأي شخص مهتم بنشرها من دور النشر الوطنية. نظر الملحق العسكري للكتاب وقال للضابط بلغة الأمر: "أسر الشهداء مش محتاجين دعوة، فوراً أوجد له كرسي في طاولة كبار الضباط".
غلاف كتاب مذكرات جندي مصري ويتوسطه صورة الشهيد جندي مقاتل د. أحمد حجي
وكانت هذه بداية قصة صداقتي مع اللواء أركان حرب محمد عبد المنعم على هاشم الملحق العسكري وقتها للسفارة المصرية في فرنسا، والتي دامت صداقتنا حتى يومنا هذا، والذي اختير فيما بعد كأول محافظ لمدينة السويس بعد ثورة 25 يناير، ومن أول من أمروا بعدم إطلاق النار على الثوار. ولم يُنشر الكتاب حتى اليوم بشكل موسع.
التعليقات