للحضارة العربية السبق في تحويل الفلك من مجرد قصص وأساطير إلى علم حقيقي، دافعها الأساسي إلى ذلك كان تطوير علوم أخرى مثل الجبر والفيزياء والملاحة وغيرها من العلوم، فمن تأمل النجوم وحركتها كتب العرب أبهى سطور صفحات تاريخ العلوم الحديثة.
وحقيقة منذ قرأت خبر عزم الإمارات على إنشاء وكالة فضاء وإرسال مسبار لاكتشاف المريخ راودني أمل أننا كشعب عربي لسنا عاجزين عن تحقيق هذا الحلم العلمي الذي يأتي ليضيء شمعة في وسط الظلام الدامس المليء بأخبار النزاعات والصراعات التي في رأيي وجدت بيئة خصبة في نفوس الكثير نتيجة غياب دور التعليم والعلم بين دوائر اتخاذ القرار في العديد من الدول العربية، وكذلك لافتقاد هذه الدول لحلم علمي حقيقي، فهل سيكون الحلم باكتشاف المريخ موحداً للآمال، ملهماً للشباب ودافعاً للنجاح والابتكار؟!
منطقياً وتاريخياً إجابة هذا السؤال هي نعم، فعند عقد مقارنة سريعة بين الظروف التي أنشئت فيها وكالة الفضاء الأمريكية وبين الظروف التي تمر بها أقطار عدة من الدول العربية، سنجد أن هناك تشابهاً كبيراً، فحينما أنشئت وكالة الأبحاث الفضائية الأمريكية "ناسا" عام ١٩٥٩ والتي كان من أوائل مشروعاتها اكتشاف القمر عبر مشروع أبولو، كانت الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الفترة تمر بأصعب مراحلها السياسية والاقتصادية، أي أنه وضع مشابه تماماً لما يمر به عدد كبير من أقطار الوطن العربي.
فما بين تعدد اغتيال قيادات بارزة مثل مالكوم إكس والرئيس جون كندي والهزيمة في حرب فيتنام والاقتصاد المتعثر، انتشرت موجة واسعة من الإحباط والعجز والروح التشاؤمية بين الشباب، لكن مشروع اكتشاف القمر وهبوط أول إنسان على سطحه حاملاً العلم الأمريكي لأبعد حدود عرفها الإنسان في تلك اللحظة، جاء ليكون مصدراً لإلهام الملايين ودعوة للتعلم داخل وخارج الولايات المتحدة، وكان هذا الفتح العلمي الكبير بمثابة أساس صناعة التكنولوجيات الحديثة في الولايات المتحدة.
وتابعت وكالة ناسا بعد ذلك إنزال مركبات على المريخ وعلى كواكب وأقمار أخرى في المجموعة الشمسية التي كان لي الشرف في المساهمة فيها خلال ما يقارب من عقدين من الزمن. وقد لا يعرف الكثير أن كل هذه المشروعات كانت في بداياتها محلاً للسخرية والتندر بين فئات كبيرة من الشعب الأمريكي، لكنها في النهاية أثبتت أن الطموح والعمل يبنيان آمالاً تغير الواقع، وفي النهاية استقر المحبطون خارج التاريخ.
أعتقد أن الإمارات ستضرب موعداً مع التاريخ بتحقيق حلم عربي يلهم شبابنا ويساهم في فهم تطور أشبه الكواكب بكوكبنا، خصوصاً وأن أبحاث الفضاء لم تعد درباً من الرفاهية، فبالطبع لها عائد ملموس في حياة كل مواطن عربي من المحيط إلى الخليج، ففهم سيناريوهات اختفاء المياه والتغيرات المناخية التي مر بها كوكب المريخ يفتح نافذة لرؤية مستقبل كوكب الأرض في ظل التغيرات المناخية التي يمر بها.
وستعود التقنيات التي سيتم استخدامها في البحث ورصد آثار المياه على المريخ في ظل المهمة الأولى للوكالة الإماراتية بالنفع على تطوير تكنولوجيا رصد آثار التغيرات المناخية في المناطق الصحراوية الشاسعة في الوطن العربي.
ولعل أكثر ما آثار في نفسي الإعجاب بهذه الخطوة الجريئة هو عزم القيادة الإماراتية على الاعتماد في الوكالة الوليدة على السواعد والعقول العربية بالداخل والخارج، فتحية خالصة لكل من اتخذوا هذه الخطوة التاريخية والتي ستسهم في زرع الحلم العلمي وسط الملايين من القلوب التي يملؤها الطموح والعقول المتعطشة للنجاح في كل أنحاء الوطن العربي.
د. عصام حجي
عالم فضاء
وكالة الفضاء الأمريكية ( ناسا )
التعليقات