مهرجان دڨة الدولي ربما يكون من أقدم المهرجانات التونسية الحية، بعد أن بلغ من العمر 105 أعوام، حيث انطلقت دورته الأولى عام 1920.
وتُعد دورة المهرجان لهذا العام 2025 هي الدورة التاسعة والأربعون، بسبب انقطاع إقامة دورات المهرجان في عقود سابقة.
وكعادة المهرجان، وربما منذ أكثر من خمس سنوات، حرصت هيئته المديرة على تقديم فعاليات متميزة تراعي التنوع بما يتناسب مع جميع الأذواق، كما أصبحت برمجة الفعاليات لا تقتصر على الحفلات الساهرة فقط، بل شملت فعاليات جديدة تُبرز سمات المنطقة "دڨة – تبرسق – باجة"، تلك المنطقة الأثرية البونية الرومانية العريقة، المتماسة حضاريًا مع روافد الحضارة الأندلسية، كما في جارتها "تستور". كما حرص القائمون على المهرجان على انفتاحه وتفاعله مع الآخر، القريب والبعيد.
برمجة فعاليات مهرجان دڨة الـ49 لدورة 2025:
8 سهرات فنية تشمل 9 عروض تونسية وعربية وعالمية.
عروض موسيقية وغنائية متنوعة على مدار أيام المهرجان.
الاثنين 30 يونيو: "كلثوميات" – سيندي لطي والأوركسترا بقيادة محمد الأسود.
الثلاثاء 1 يوليو: سهرة راب مع الفنان جنجون.
الأربعاء 2 يوليو: سهرة مميزة مع الفنانة التونسية آمال المثلوثي.
الجمعة 4 يوليو: سهرة دولية مزدوجة تجمع بين "أفرو أرابيك ڤالسير" من النمسا والفنانة البريطانية ليلي ليونز.
السبت 5 يوليو: نوربي وأوركسترا برشلونة الفيلهارموني من إسبانيا.
الثلاثاء 8 يوليو: عرض الاختتام "رقّوج" – عبد الحميد بوشناق وحمزة بوشناق.
فعاليات موازية:
بالإضافة إلى السهرات الرئيسية، يحرص المهرجان على إثراء التجربة الثقافية بفعاليات موازية تهدف إلى تعريف الزوار بخصوصية المنطقة ودعم اقتصادها المحلي، من أبرزها:
حفلات موسيقية مجانية في شوارع دڨة وتبرسق، تتضمن أنماطًا موسيقية مثل الراي، المالوف، السطمبالي، والموسيقى الشعبية، لخلق أجواء احتفالية نابضة بالحياة.
تجربة الإقامة التشاركية: يستضيف عدد من أهالي المنطقة ضيوف المهرجان في منازلهم، للتعريف بالأكلات التقليدية والموروث الثقافي، وتعزيز التبادل الثقافي، وفق ميثاق التزام بين العائلة والمهرجان، وبمقابل مادي محدد سلفًا.
برنامج تدريبي للشباب: يُخصص لشباب تبرسق لتعزيز مهاراتهم في إدارة المشاريع الثقافية، خاصة في القطاع الموسيقي، لبناء كفاءات تساهم في تنظيم المهرجان مستقبلًا.
ويهدف مهرجان دڨة الدولي في دورته الـ49 إلى تقديم تجربة ثقافية وفنية متكاملة، تجمع بين التراث الأصيل والإبداع المعاصر، مع التركيز على دور الثقافة في التنمية الاقتصادية المحلية.
أولى سهرات مهرجان دڨة الدولي في دورته الـ49 كانت تونسية خالصة مع إحدى أهم الأصوات التونسية حاليًا، "آية دغنوج"، وهي مطربة متميزة جدًا، سيكون لها مستقبل واعد إذا توخت الذكاء الفني والاجتماعي معًا.
لديها صوت وموهبة تؤهلها لأداء طربي ممتاز، وقد بدأت حفلها بإحدى روائع الطرب التونسي "يا خموري"، من ألحان الشيخ خميس الترنان وكلمات عثمان الغربي، والتي كانت تؤديها قديمًا الفنانة الراحلة صليحة.
ورغم الرياح القوية في الموقع المرتفع للمسرح الروماني بدڨة، والتي تسببت ببعض مشكلات الصوت، إلا أن "آية دغنوج" أدت الأغنية بتمكن، مدعومة بعزف المايسترو محمد الأسود وفرقته، الذين تعاملوا مع الموقف بحذق ومهارة.
الحفل كان تونسيًا خالصًا، تضمن ألوانًا مختلفة من التراث، ما جعل الجمهور يتفاعل ويندمج بوضوح.
وقد بلغ هذا التفاعل ذروته عند أدائها أغاني الشمال الغربي، الذي تنتمي إليه، وخصوصًا أغنيات مثل "ناقوز اتكلم" و"النسمة الكافية"، التي ألهبت أكف الجمهور وصفقاته.
الفنان المصري توليت - من تصوير المصور الصحفي الزميل رفيق بودربالة
عرض توليت:
لم يتسن لكاتب السطور حضور عرض الفنان المصري "المقنع – توليت"، بسبب إصابة غير متوقعة في القدم، نجمت عن موقع وقوف الحافلة، نتيجة ترتيبات تنظيمية وعد المنظمون بحلها، لكن ذلك لم يحدث للأسف!
ولست أدري إلى متى سيظل الصحفيون والإعلاميون – ومعهم الجمهور الذي دفع ثمن التذاكر – يسيرون كل هذه المسافة الطويلة ذهابًا وإيابًا نحو المسرح الروماني، الأمر الذي يفسد الكثير من متعة المهرجان.
لكن أصداء الحفل الناجح لـ"توليت" وصلت لمن لم يحضره. ومع ذلك، لا بد من ملاحظة مهمة للقائمين على المهرجان والفنانين القادمين من المشرق، تتعلق باختلاف المصطلحات والمعاني بين المناطق، وهي مسألة قديمة لم تُحل بعد.
من الأفضل أن يتم التفاهم المسبق بين الطرفين حول الكلمات والمصطلحات، تفاديًا لأي سوء فهم، خصوصًا في المزاح الذي يختلف حتى في نبرته من منطقة لأخرى.
حفل المطربة اللبنانية سيندي لطي
سيندي لطي... جمال الصوت لا يكفي:
الفنانة اللبنانية "سيندي لطي" تمتلك صوتًا عذبًا وجميلًا، وتؤدي بشكل جيد يُنسي المستمع بعض الهنات في البدايات، خاصة في أغاني كوكب الشرق أم كلثوم.
رغم التوتر الواضح عليها في البداية، فقد ساعدها المايسترو محمد الأسود وفرقته في تجاوز الأمر بلباقة وهدوء.
أدت "سيندي" أغنيات مثل "بعيد عنك"، و"أنا في انتظارك"، و"ألف ليلة وليلة"، كما قدمت مقاطع "صولو" على العود، صاحَبها فيها محمد الأسود على الكمان بكل أريحية.
لكن بدا عليها بعض التوتر والتعالي غير المبرر عندما غنّت لأسمهان في حفل عنوانه "كلثوميات"، ما قد يسبب التباسًا للجمهور، وإحراجًا للمهرجان.
"سيندي لطي" موهبة محترمة، وقد تحقق نجاحًا أكبر إن هي توخت التواضع واللباقة والذكاء الفني.
"جنجون"... نجومية، جماهيرية، وموسيقى:
"جنجون" (يحيى العيادي) فنان راب تونسي يملك جماهيرية واسعة، وأسلوبًا خاصًا يمزج بين الراب التقليدي وعناصر من الموسيقى المحلية والعالمية.
يؤدي باللهجة التونسية القُحّة، بكلمات واقعية، وأحيانًا صادمة، تتناول الفقر والبطالة والفساد، وتحمل آمالًا شبابية.
أسلوبه المباشر وتفاعله الحماسي يجذبان جمهورًا عريضًا، إلى درجة اقتحام المسرح أكثر من مرة رغم الإجراءات الأمنية.
لكن صوته يظل غريبًا على الأذن المعتادة على الطرب الكلاسيكي.
ولعل أكثر ما يُقلق في فنه هو تجاوزه لبعض الخطوط المجتمعية، كما في أغنية "سكارى سكارى"، ذات المذهب: "سكارى سكارى عدينا العمر بمرارة"، والتي باتت ترددها حتى الطفلات الصغيرات، مما يثير تساؤلات حول الاتجاه الفني ومستقبله الأخلاقي.
ما تزال فعاليات مهرجان دڨة الدولي مستمرة، وبرمجته مميزة وتراعي مختلف الأذواق، لكن وبحسب الانطباعات، فإن فعاليات هذه الدورة ليست بقوة الدورة السابقة، ربما بسبب عدم وفاء بعض الجهات الراعية بالتزاماتها تجاه هذا المهرجان العريق.
التعليقات