حين خيَّم الصمتُ الإلكترونيُّ ليومًا واحدًا، تجرَّد العالمُ من جلده دفعةً واحدة، كأنما خيطٌ سريٌّ كان يشدُّنا إلى بعضنا، وإلى أعمقِ ذواتنا، قد انقطع فجأةً، فهوينا في غياهبِ فراغٍ موحشٍ من وحدةٍ عارية. توقفت الأرض عن الدوران في محاجر أعيننا، فلو زاغت الشمسُ عن فلكها لحظةً، لما ارتعش لنا جفنٌ، بيد أن غياب إشعارٍ واحدٍ عن شاشاتنا هزَّ أركانَ أرواحنا، فبدت كأنها قصرٌ بلا عمدان.
انفرطَ عِقدُ الدرس في منتصفه، وجمدت شرايين البنوك كأنما أصاب أموالها صقيعٌ مفاجئ، وتجمدت مصالح الناس وتلاشت أحلامهم في مهب الريح. تعثَّر الكلامُ قبل أن يبلغ منتهاه، وتاهت رسائلُ لم تجد سبيلًا لتعبر. كل شيءٍ تكدَّس في غياهب الظلام، يترقَّب وميضًا من شبكةٍ غابت، فكشف لنا غيابُها عن هشاشتنا المُزرية بدونها.
حاولتُ أن أستعيرَ ظهري من عقارب الساعة اللّاهثة، وأن أدفعه ثلاثين عامًا للوراء. نقَّبتُ عن تلك النسخة التي كنتُها قبل أن تُسجِنَنا أسلاكُ التكنولوجيا في وهمِ التواصلِ الدائم. تخيَّلتُ للحظةٍ أن الزمن قد يعيدُ إليَّ صفاءً مفقودًا، يحررني من شوائب الإدمان التي تغلغلت في كياني حتى صارت جزءًا لا يتجزأ مني. لكن الحقيقة بدت أقسى وأمرّ: لقد ألفنا العيشَ داخل دوائر الضوء الأزرق حتى صرنا نخشى العتمة التي تعقبها، واستمرأنا الأبوابَ المشرعةَ على عوالم الآخرين حتى نسينا كيف نُغلِقُ أبوابَنا الداخلية ونغرق في سكينةِ انفسنا،،.
يا لسخرية الحضارة! ظننا يومًا أن التكنولوجيا نافذةٌ مشرعةٌ على الكون، فإذا بها تتحوَّلُ إلى قضبانٍ تُحكم إغلاقها حول يقظتنا، وخلواتنا، ومزاجنا، وأحلامنا المؤجلة.
إننا لم نعد نملك ترفَ إطفاءِ أجهزتنا والعودةِ سالمين كما كنا؛ فالتكنولوجيا حين تسري في أوتار الروح، لا تنزفها إلا على مهلٍ، ولا نبرأ منها إلا إذا ملكنا شجاعةَ مواجهة أنفسنا بلا قناعٍ، ولا شاشةٍ، ولا عزلةٍ تتوارى خلف ضجيجِ الآخرين.
إن انقطاع الشبكة يومًا واحدًا ليس بكارثةٍ حقيقية، بل هو تذكيرٌ قاسٍ: بأننا رهائنُ شباكٍ نسجناها بأيدينا… وأن إنقاذ أرواحنا منها بات أصعبَ بكثيرٍ من مجرد نقرةِ إغلاق.
التعليقات