ما أعمق الهوّة بين ما يراه الناس وما يختبئ في مرايا الذات! فكم من إشارة بالبنان نحو شخص يُحسب متألقاً، وهو في قرارة نفسه يعلم أنه لا يستحق ذلك التكريم. وكم من تصفيق حارّ يدوّي في الأرجاء، بينما صاحب المقام يدرك أن الأنغام التي سحرت الحضور ليست من عزفه الأصيل، بل مجرد نسمات إلهية عابرة اختارت أناملَه وسيطاً مؤقتاً لها.
يتهادى الغصن متمايلاً ليس بقوته الذاتية، بل بفعل النسيم الذي داعبه وسيرحل عنه. هكذا نحن في أفضل لحظات عطائنا - لسنا سوى أوعية تنساب من خلالها روافد الحكمة، وقنوات تمرّ عبرها فيوض الإلهام.
العارف حقاً يصغي لكلمات الثناء فتختلج روحه خجلاً، ويستتر في محراب الصمت حذراً من أن يتسلل ذلك الزهو الخفي إلى خبايا قلبه متنكراً في ثياب الاستحقاق. كيف لا والنفس البشرية خُلقت ضعيفة أمام غواية المديح، فتنخدع بما تسمع حتى تحسب نفسها مصدراً للنور، وهي في الحقيقة لا تعدو أن تكون مرآة تعكس أشعة شمس لم تخلقها.
لا أصدق من نظرة العارف حين يرى نفسه لا منارة تشع بالهدى، بل مسافراً متعباً في دروب الحياة، يتلمس بيديه المرتعشتين خيوط النور، لا ليهدي غيره، بل ليهتدي هو أولاً. وإن لاح في رحلته بصيص يضيء العتمة، فإنما هو إشراقة من مشكاة الحكمة الأزلية، وليس من ذات محدودة تتأرجح دوماً بين جناحي الرجاء والخوف.
وهم عظيم أن يقيم الإنسان نفسه بميزان التصفيق، أو أن يرى مكانته بمرآة المادحين. فالحق أن كل فضل يُنسب للمرء، إنما هو وديعة مستعارة ومنحة مؤقتة، اختُبرت بها أمانته، وامتُحِن بها توازنه.
ما هذه الهبات المتناثرة في حياتنا إلا ابتلاءات متخفية في ثياب العطايا، واختبارات مغلّفة بغلاف المِنح. وما نحن في مسرح الوجود إلا كالفلاح البسيط الذي لا يملك من أمر الزرع شيئاً - يبذر بيد الأمل، ثم يرفع أكفّ الضراعة إلى السماء يستمطر الغيث، وينتظر الحصاد بعين الافتقار والتواضع، لا بنظرة الاستحقاق والادعاء.
الحكمة الأعمق تكمن في أن نفهم أننا لسنا مُلّاك الموهبة، بل أمناء عليها لحين. وأن الإنسان مهما بلغ من العلو، فإنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فكيف يتبجح بمُلكٍ هو فيه مجرد خازن مؤتمن، وكيف يتباهى بعطاءٍ هو فيه مجرد وسيط متواضع بين المنبع والمصب؟
طوبى لمن أدرك هذه الحقيقة فتعامل مع كل نجاح ينسب إليه بتواضع العارف، وبصيرة المتأمل، ووقار المسافر الذي يعرف أن الطريق طويل، وأن ما معه من زاد ليس من صنع يديه، بل هديةٌ من أياد أكرم وأعظم.
التعليقات