هل يستحق فيلم أوبينهايمر الضجة المُثَارَة حوله؟
حين سُئِلَ المخرج الأمريكي العبقري أوليفر ستون "صاحب جي إف كيه وُولِدَ في الرابع من يوليو وقتلة بالفطرة" عن رأيه في الفيلم أجاب، استمتعت بكلاسيكية سينمائية من ثلاث ساعات أهداها نولان للتاريخ. حين عُرِضَ عليَّ نفس الكتاب لصنع فيلم سينمائي، رَفَضْتُ لأنني لم أجد المَدْخَل المناسب لمعالجة القصة.
مَرْبَط الفرس في المَدْخَل. تحدي كريستوفر نولان الحقيقي في صنع فيلم عن العَالِم أوبنهايمر لا يكمن في كيفية الإبهار بل في إيجاد صيغة سينمائية تصلح لجذب المتفرج و إثارة فضوله. أوبنهايمر أبو القنبلة الذرية الأولى في العالَم.
لم يكن مخترعها لكنه قاد مشروع "مانهاتن" الذي دَشَّنَهُ البيت الأبيض بالتعاون مع المخابرات الأمريكية للوصول إلى سلاح فَتَّاك يُنْهِي مقاومة اليابانيين بعدما تعجز كافة الأسلحة التقليدية عن الصمود أمامه لتتسيد أمريكا من بعده العالَم عسكريا وسياسيا.
قاد أوبنهايمر فريقا من أقوى العقول للعمل على تطوير القنبلة الذرية بالاعتماد على عِلم الفيزياء الكَمِّيَة.
القصة كئيبة و نهايتها معروفة مسبقا للجميع ، لا ِسيَّمَا في عصر محركات البحث على الإنترنت. إذن كيف لنولان أن يصنع سِحْرَهُ المعتاد هذه المرة رغم عدم امتلاكه براحاً للإبداع يطرح من خلاله أفكارة المجنونة أو يخلق عوالِمَهُ الخاصة؟
دعنا نسأل السؤال الأسبق منطقيا: ما هو الفريد في كريستوفر نولان نفسه؟ ولماذا يتحول تقديمه لأي فيلم إلى حدث جَلَل يشغل الميديا؟
يُعَّد نولان أحد المخرجين القلائل الناجحين في الجمع بين إبهار الجماهير ونيل استحسان النقاد في العالَم. شأنهُ شأن ترانتينو و سكورسيزي وويس أندرسون. انتقل من صفوف مخرجي الصفوة إلى المخرجين الجماهيريين بعد إخراجه فيلم "دارك نايت" من سلسلة باتمان.
يلاعب نولان جماهيره دوما بكروتٍ ثلاث. فكرة مُرَكَّبَة تنتمي غالبا للخيال العلمي، اللعب على عنصر الزمن وعنصر الجاذبية.
اختار نولان لحظة استجواب لجنة التحقيق التابعة لوكالة الطاقة النووية أوبنهايمر من أجل منحه تصريح الإِجَازَة الأمنية، مَدْخَلاً لتحريك الأحداث. نجاحهُ في الإجابة على أسئلة التحقيق يعني استكمال عمله كعالِم نووي. أما إدانته يعني عدم منحه تصريح العمل مجددا في الوكالة أو بمعنى أصح انهاء مسيرته المهنية العلمية و تشويه سيرة البطل القومي!
بالتوازي، نشاهد استجواب رئيس الإدارة ومديره المباشر "لويس شتراوس" عن أهلية وولاء موظفه.
تملك نولان مفتاح أوبنهايمر في اللحظة المفصلية التي شككت فيها أجهزة الدولة الأمريكية في ولاء واحد من أعظم علمائها و أبطالها القوميين بعدما ساعدها في الوصول إلى أقوى سلاح رادِع على وجه الأرض. الاستجواب كمُحَرِك للأحداث يَسَّرَ لنولان التنقل بين العودة خلفا "فلاش باك" للتعرف على نشأة الطالب الفَذ المُضْطَرِب الذي حاول يوما تسميم أستاذه بعدما عجز عن فهم أفكاره في فيزياء الكَّم. ثم العودة إلى الحاضر لفهم صراعات أوبنهايمر العنيفة سواءً مع لجنة التحقيق أو مع نفسه لتبرير مآلات السلاح الفَتَّاك الذي يعمل على صنعه.
طرح الفيلم عدة أسئلة هامة على المستوى التاريخي العام وعلى المستوى النفسي الشخصي لأوبنهايمر.
-أولا: هل كان اختراع أمريكا القنبلة النووية ضرورة للبشرية؟ في زمن وردت فيه معلومات عن اقتراب ألمانيا النازية من الوصول إلى ذات الاختراع؟
-ثانيا هل كان في إلقائها على مدينتي هيروشيما ونجازاكي رغم هزيمة ألمانيا وإيطاليا وتقهقر اليابان فائدة ترجى في إنقاذ المزيد من الأرواح رغم فاجعة مقتل ما يقارب 300 ألف مدني في المدينتين؟
أما على جانب أوبنهايمر نفسه كان سؤال الفيلم الأهم والمحوري في رأيي هو أين تبدأ وأين تنتهي مسؤولية العالِم في مشروع سياسي عسكري مثل هذا حيث تبقى سلطة اتخاذ القرار في يد القيادة السياسية رغم حتمية دور العلماء العملي في إتمام المشروع؟
هل كان أوبنهايمر قاتلا أم مقتولا؟
جَنْحَ بعض معارضي الفيلم إلى كونه بروباجندا سينمائية تغسل يد القيادة الأمريكية من دماء الأبرياء وتنظف ذمة أوبنهايمر من الذنوب رغم كونه رأس الشيطان.
ربما يستدعي هذا السؤال التاريخي سؤالا حاضرا عن ظاهرة تطوير الذكاء الاصطناعي العصرية ومدى مسؤولية العلماء عن مآلاتها على البطالة وسرقة الحقوق الفكرية مع فارق أن الطرف الثاني هذه المرة لا يقتصر على القيادات السياسية فقط بل يشمل أيضا إدارات الشركات الكبرى المُطَوِّرَة أو المُستَخْدِمَة للتكنولوجيا.
الإجابة في رأيي يسهل الاستدلال عليها بمشهدين عبقريين. مشهد الرئيس الأمريكي ترومان حين زاره أوبنهايمر في البيت الأبيض ليثنيه عن المُضِي قُدُمَاً في تطوير القنبلة الهيدروجينية لأن من شأنها إضرام حرب باردة من التسلح النووي مع الغريم السوفيتي وحين باحَ أوبنهايمر للرئيس أنه لا ينام لأن يده ملطخة بالدماء، أخرج الرئيس من جيبه منديلا كي يمسح يده قائلا "لن يتذكر الناس مَن اختَرَعَ القنبلة لكن سيتذكرون من أمر بإلقائها" في إشارة إلى مدى استهزاء إدارة البيت الأبيض بمسألة عار قتل الأبرياء ومدى انحطاط رؤيتها لعلماء الوطن، فهم مجرد أدوات لتحقيق إرادتهم السياسية.
وفي مشهد أخر هزلي يناقش وزير الخارجية "ستيمسون" مع مجموعة من الساسة وفريق مشروع مانهاتن الموقع الجغرافي المُسْتَهْدَف قَصْفَهُ في اليابان فيدلي برأيه "يجب استبعاد مدينة كيوتو، فلديها إرث ثقافي كما قضيت بها مع زوجتي شهر العسل!" ثم يضحك ضحكة بلهاء تُلَخِّص تهافت منطق الإدارة الأمريكية في الحرص على حفظ الأرواح بإلقاء القنبلة!
أما عن أوبنهايمر، فلم يقدم لنا الفيلم صورة ملائكية أو شيطانية عنه. إذا أقر مشاركته في الجرم التاريخي حتى لو كانت الدوافع الأولى في مبادرة البحث عن سلاح فَتَّاك بَدَت بريئة. بل أن الهلاك الذي صاحب إنجازاته العلمية لم يسلم منه أقرب الناس من أحبته. لكن مشاركته في القتل لا تنفي محاولاته اليائسة ألا تستمر سلسلة القتل إلى ما لا نهاية.
قدم نولان كعادته صورة سينمائية جميلة بتقنية أي ماكس الحديثة لا تعتمد على تكثيف المؤثرات البصرية بقدر ما تعتمد على تكوين كادرات قريبة "زووم" بليغة التعبير.
كالعادة كانت الموسيقى التصويرية"من تأليف يورانسون" عنصرا فعالا في تصعيد التوتر رغم كلاسيكيتها الملحمية.
قدم كيليان ميرفي "أوبنهايمر" أفضل أدواره على الإطلاق.
أما روبرت داوني جونيور "شتراوس" فعاد إلى توهجه في دور شابلن وسَيُرَّشح عنه حتما لجائزة أوسكار أفضل ممثل مساعد.
أثبت المخضرم جاري أولدمان في دور الرئيس ترومان بمشهد وحيد قصير أن الممثل العبقري لا يحتاج أكثر من بضع دقائق لترك أثر عميق لدى المتفرج.
في الأدوار النسائية، تألقت إيملي بلانت في دور الزوجة كيتي وأثبتت فلورنس بويي في دور العشيقة الإشتراكية القصير تطور موهبتها.
أوبنهايمر ملحمة تاريخية سياسية تثير الأسئلة عن الجريمة الأبشع في التاريخ المعاصر. ليس فيلما حربيا ولا علميا لكنه قادر على هز ثوابت المُسَلَّمَات في وعينا الباطن وتحفيزنا على إعادة طرح الأسئلة الصعبة.
التعليقات