عزيزي المُغْتَصِب، الرجاء التفضل بالسماح بحكي قصتي..
تلك هي العبارة الاستهلالية المطبوعة على مقدمة الفيلم الفلسطيني الُصنع "عَلَمْ"، المتعدد التمويل "بنسبة أعلى لفرنسا وبالشراكة مع عدة دول".
عَلَم الذي حصد 3 جوائز هامة في مهرجان القاهرة، دورة 2022 "أفضل فيلم، أفضل ممثل وجائزة الجمهور".
عَبَّرَ المخرج الفلسطيني فراس خوري، في أكثر من مناسبة عن فرحته الغامرة بوصول الفيلم إلى دورالعرض، ثم عرضه في أكثر من مهرجان سينمائي، حيث لاقى حفاوةً وتقديراً كبيراً.
وأوضح خوري أن ُصنعَ الفيلم كان أشبه بمخاضٍ عسير من أول التمويل حتى قبول الاشتراك في المهرجانات مرورا بتصريحات التصوير.
عَلَمْ، لا يحكي عن معاناة الفلسطيني في القطاع أو الضفة كما جرت العادة في معظم الأفلام الفلسطينية، بل يسلط الضوء على فلسطينيي 48، أو فلسطينيي الداخل القاطنين داخل الحدود الرسمية للكيان.
تحديدا يحكي لنا سردية الشاب الفلسطيني الهوية الإسرائيلي الجنسية، كيف يواجه إشكالية وجوده في وطن يروي له عَبْرَ مؤسساته الرسمية ومنهاجه الدراسية، تاريخا يخالف التاريخ الذي عايشه أو سمع عنه من أهله وجدوده، وطن يعتبره دخيلا أو ضيفا ثقيلا في حين يخبره أهلهُ أنهم أصحاب الأرض الأصليين.
تامر، الطالب بمدرسة إسرائيلية، مثله مثل أي مراهق، يفتقد شغف الدراسة ويكره المدرسة، حياته تتمحور حول شلة الفصل المكونة من شباب يعيشون على هامش الحياة، إذ يقف سقف اهتماماتهم عند حدود اللعب وتدخين الحشيش وغناء الراب.
ويقرر تامر الانتقال إلى غرفة سكنية ملحقة بمنزل العائلة "بحجة التركيز في المذاكرة"، وكأنه قرر الانعزال داخل فقاعته الخاصة، لا يشعر والدهُ بالراحة لهذا القرار لكن يقبله على مضض، شريطة أن يتخطى تامر تعثره الدراسي ومشاكله المتكررة مع إدارة المدرسة التي تسببت في تحويله إلى لجنة التحقيق أو الاستماع مرتين، إذ أن تحويله للمرة الثالثة قد يعني فصله نهائيا، وهي ورطة كبيرة لأي طالب أو أب "عربي".
لكن حياته تنقلب رأسا على عقب حين ينضم للمدرسة والشِلَّة، "ميساء"، القادمة من القدس، الحالمة المتمردة التي انجذب لها من أول نظرة مع رفيقها صفوت، المتمرد الوطني الحانق على عنصرية الدولة التي انتزعت قهرا بيت جدته حتى أصبحت ممنوعة من زيارته، صفوت يرفض التاريخ المزيف "من وجهة نظره" ليوم الاستقلال الإسرائيلي والمعروف باسم النكبة عند العرب.
يحاول تامر التقرب من ميساء، لكنه يجد أن السبيل لذلك، يمر عبر مغامرة خطيرة بقيادة صفوت، إذ أطلعهم على خطته بالقيام بعملية سرية لإنزال العلم الإسرائيلي المرفرف فوق سطح المدرسة ورفع العلم الفلسطيني بدلا منه.
مغامرة قد تتسبب في فصله أو سجنه أو حتى تعريضه للخطر، فهل تستحق عيون ميساء تلك المخاطرة الكبرى؟، وهل تُكَلِّفهُ صداقته بصفوت مستقبله الدراسي؟.
مرة أخرى، نشاهد فيلما عَذْباً، يشرح القضية من منظور إنساني بحت دون الإفراط في التراجيديا أو العنف أو حتى السياسة.
تُغَلِّف الأحداث مسحة من الكوميديا السوداء التلقائية، تنبع من صبيانية أعضاء الشلة، خصوصا شيكل، وعزو، وتامر "المراهق الولهان".
في أغلب الأوقات لا نرى أبطالا خارقين أو مقاتلين متوحدين مع القضية، لكننا نرى مراهقين نعرف أمثالهم جيدا وحتما مررنا بهم في حياتنا.
لا يتوقف الفيلم عن طرح الأسئلة الصعبة.. أيهما أهم حياة الإنسان ورَغَدِه أم قطعة قماش تتدلى فوق سارية؟.
هل التماهي مع السردية التاريخية المهيمنة على المجتمع والميديا وربما القوى العظمى بالعالم كفيلة بتجاوز حقائق التاريخ؟.
هل يمكن للأجيال العربية الجديدة في أرض الاحتلال أن تنسلخ من جلدها لتسكنها هوية جديدة أقرَّها القدر تاركين حكايات الأجداد التي تجاوزها الزمن؟
لم يخلو الفيلم أيضا من الرمزيات المباشرة، مثل غرفة المعيشة التي سكنها تامر في عزلة عن أسرته في إشارة إلى تمزيق نسيج الشعب الفلسطيني داخل أرضه بين قطاعات مختلفة.
ميساء، الفتاة الجميلة التي كان لمجيئها أثر السحر على تامر وربما الشلة في إشارة إلى أرض فلسطين.
وحرصَ السيناريو أن يقدم لنا شخوصا إنسانية من لحم ودم، لا أقول أنها لا تخلوا من عيوب، بل أقول أنها غارقة في عيوبها ونواقصها، فهم يخافون ويؤثرون الآمان ويفضلون المرح عن الجَد، عزَّزَ ذلك الإحساس، إسناد خوري أدوار البطولة لممثلين هواه مبتدئين، مثل محمود بكري، تامر، وسيرين خاس، ميساء، أحمد زغموري، رضا.
بالرغم من عدم تحمسي لهذا التوجه، إلا أنني أراه مبررا فنيا هذه المرة، كما أرى أن خوري نجح فيما فشل فيه مخرجون عالميون في ترويض وتوجيه الممثلين المبتدئين للوصول لأفضل أداء ممكن.
كما نجح التصوير في تقريبنا من أجواء الأراض المحتلة في الداخل، رغم أن الفيلم تم تصويره بالكامل في تونس، هنا نرى رفاهية الحياة البادية على البنايات والبشر على عكس القطاع والضفة، لكن ذلك لا يعني تحررها من مآسي الأرض المحتلة في كل بقاعها.
ربما افتقرت مشاهد المظاهرات إلى الاتقان لكنها كانت كافية لنقل أجواء ومشاعر الحدث.
يفتح الفيلم عيوننا على حقائق هامة.
أن الظلم لا يقتصر على جزء بعينه من أرض فلسطين.
أن تكرار ترديد الزيف لا يجعله واقعا.
أن التعايش مع الظلم دون تحقيق العدل لن يدوم.
أن جذر المشكلة قديم جدا، عابر للأجيال وليس صحيحا أن سببه جماعة بعينها أو شخص بعينه أو محصور في مدينة أو قطاع.
أن الإنسان حتما أهم من القماش، لكن حين يصبح القماش رمزا للعدل والحرية والكرامة يصبح التخلي عنه مرادف للتخلي عن الحياة ذاتها.
فلا معنى للحياة دون تلك القيم التي تُكْسِبها معناها.
التعليقات