الدراما هي فن الهمس بالأفكار. حين يُصَرِّح الروائي أو المخرج مباشرة برسالته، إلى المشاهد يتحول عمله الفني إلى مقال أو محاضرة.
هكذا تخصم الرسائل المباشرة من القيمة الفنية لأي عمل سينمائي أو روائي. و لهذا السبب أيضا، لا تحظى أفلام البروباجندا بسمعة طيبة في تاريخ السينما.
لذا، ترددت قبل مشاهدة فيلم جولدا لمخرجه الإسرائيلي "جاي نافيت"، محاولا تنحية الأحكام أو الفرضيات المسبقة. لكن حين يدور الفيلم عن رؤية إسرائيل لحرب 6 اكتوبر المجيدة أو حرب يوم كيبور على حد تسمية الإعلام الاسرائيلي أو الغربي بعيون زعيمتهم التاريخية جولدا مائير، يصبح من الصعب، الفصل بين خلفيتك السياسية و تذوقك أو تقييمك الموضوعي للفيلم من وجهة نظر فنية متجردة.
لذا أفرق هنا بين نظرتي للفيلم سينمائيا و تاريخيا.
أولا سينمائيا:
- يعد الفيلم سيرة ذاتية مكثفة لجولدا مائير، من خلال إدارتها لأزمة حرب أكتوبر، أكثر منه فيلم متعمق في جذور الحرب. جولدا هي محور الحدث ومحركته أما الحرب مجرد سياق.
- تستدعي جولدا بأسلوب الفلاش باك تفاصيل الأيام التسعة عشر العصيبة للحرب وحيثيات قراراتها، ردا على استجوابات لجنة "أجرانات" المُكَلَّفَة من الكنيست بتقصي الحقائق.
- يمضي السيناريو على نسق رتيب متكرر. لحظات تأمل لجولدا، يليها اجتماع في مكتبها أو غرفة القيادة ثم استماع للمحادثات الميدانية للحرب عبر السماعات والأجهزة اللاسلكية. لم تخرج الكاميرا إلى ميدان القتال ولم يستعن المخرج برصيدٍ كاف من اللقطات الأرشيفية والتسجيلية، بل اكتفى بنقل تبعات الحرب عبر حوارات الغرف المغلقة وأصوات القادة أو الجنود المسموعة عبر أجهزة الاتصال.
- رُسِمَت شخصية جولدا بكرتونية وضبابية شديدة. فهي أشبه بِجَدَّة طيبة، شرهة التدخين، تنفلت منها هَبَّات شرسة من حين لآخر تشِ بوجهها الآخر القاسي. لا نسمع الكثيرعن خلفيتها الانسانية سوى عبارات مقتضبة شحيحة تصف طفولتها في أوكرانيا وكيفية نجاة عائلتها من بطش جماعات الكازاك في أوكرانيا.
- رغم افتناني بهيلين ميلر كأحدِ أعظم ممثلات هوليود، لم أشعر، أنها في وهج تألقها أو بالأحرى تقمصها. ربما بسبب عجز السيناريو عن رسم عمق للشخصيات، بالإضافة لتواضع مستوى التمثيل بوجهٍ عام، خصوصا رامي هيوبرجر في دور موشي ديان ولييف شريبر في دور كيسنجر حتى بتنا أمام أستاذة تمثيل تجتهد وحيدة وسط فصل من الهواة.
ثانيا، جولدا تاريخيا وسياسيا:
- تَبَّنَى الفيلم نظرية تسريب العميل أشرف مروان "حسب زعمهم" للموساد، الموعد المخطط لحرب العبور يوم 5 أكتوبر.
أظهر الفيلم أن خلاف أعضاء القيادة الإسرائيلية، تمحور حول مدى مصداقية المعلومة وناقِلها. إذ َسَبقَ له تسريب معلومات عن هجمة مرتقبة من الجانب المصري لكنها لم تتحقق كما رصدت الاستخبارات الإسرائيلية أكثر من حالة استنفار أو تعبئة على الضفة الشرقية لم تسفر عن شيء. أخيرا، قررت جولدا إعلان تعبئة جزئية ل 130 ألف جندي فقط. لأن التعبئة العامة تتطلب وقتا أطول وتكلفة باهظة.
رغم رواج تلك السردية بنسخها المتعددة بما فيها من نسخ تتهم قائد عربي بتسريب موعد الضربة. عفواً لا أجدها مقنعة!
لم أبنِ رأيي على معلومة، بل على تحليل لطبائع الأحداث. رد فعل الجيش الإسرائيلي المُرْتَبِك المُتَخَاذِل في مواجهة الضربة الجوية الأولى والعبور العظيم وتحطيم خط بارليف لا يشِ أننا أمام جيش، كان لقيادته أدنى معرفة أو شك باحتمالية تحرك العدو من الضفة المقابلة. على سبيل المثال لا الحصر، قامت الضفادع البشرية المصرية بعملية فدائية لسد فَوَّاهات مدافع النبالم الحارقة بمادة كيميائية على طول خط القناة، فهل يعقل أن تكون القيادة العسكرية والسياسية لجيش إسرائيل، كانت مجتمعة اليوم السابق لمناقشة خطة الردع؟ أيعقل ألا يوجد حد أدنى من الاستنفار بين فرق الاستطلاع البحرية؟ ألم يكن بالإمكان تكثيف طلعات جوية استطلاعية نحو الضفة الشرقية لتعطيل أو تخويف القوات المهاجمة على أقل تقدير؟
أرى أن نجاح تحطيم شبكة بارليف الدفاعية بسرعة ودقة مع تكبد مصر خسائر محدودة نسبيا يؤكد أن الجيش الإسرائيلي أُسْقِطَ في لحظة غفلة تامة تشبه لحظة سقوط الجيش المصري في 1967!
- المؤكد أن خطة الخداع الاستراتيجي العبقرية في التدبير والتنفيذ، نجحت نجاحا مبهرا وكان لها دورا حاسما في نجاح العبور. بل أن جولدا، أقَرَّت بنفسها أن السادات انتصر وأن خسائر إسرائيل فادحة، بعد فشل محاولات الرد في يومي 7 و8 أكتوبر.
-يستعرض الفيلم لاحقا، تدارك القوات الإسرائيلية خسارتها ولملمة القيادة شتاتها عبر استرداد جبهة الجولان ثم إحداث ثغرة الدفرسوار بتفاصيلها التي أدت إلى عبور مضاد لألوية إسرائيلية بقيادة شارون وحصار السويس مع 70 ألف جندي مصري من الجيش الثالث.
هنا رَكَّزَ الفيلم على صلادة جولدا في محادثتها مع كيسنجر المحنك وإظهار أن الثغرة قربت جيش إسرائيل من عاصمة العدو حتى انقلبت الموازين وتحولت مصر إلى الطرف الساعِ لإيقاف القتال. بينما أَصَرَّت جولدا بحسم على اشتراط أن يقدم السادات اعترافا مصريا مباشرا بدولة إسرائيل مما مهد لإجراء مباحثات الكيلو 101.
هكذا تبنى الفيلم السردية الأكثر رواجا للإعلام الغربي أو الإسرائيلي في تصوير الثغرة على أنها مزقت الجيش المصري واقتربت من إسقاط القاهرة لتحقق انتصارا عسكريا سياسيا حاسما لصالح إسرائيل.
الحقيقة، رغم فداحة خسائر الجيش المصري في الثغرة وتحسين إسرائيل موقفها العسكري نسبيا، إلا أن هذا التصور يتجاهل العديد من الحقائق. أولها أن خسائر الطرف الإسرائيلي في الثغرة كانت فادحة أيضا. كما أن القوات الإسرائيلية لم تكن تملك الكثافة الكافية للتقدم أكثر، ولو أكملت الزحف لبدأت خطوطها في التقطع والاختراق.
المنطق يحتم أنه، لو كان بالإمكان لإسرائيل تأمين المساحات التي اجتاحتها بعد عبور الضفة الغربية، لما قبلت شرط وقف إطلاق النار بالعودة إلى الضفة الشرقية للقناة لأنه يعني بالضرورة استعادة مصر لأهم ممر مائي في العالم. إذن لم تكن الثغرة رغم أثرها البالغ بهذا العمق والحسم كما تُصَوِّرُهُ الرواية الإسرائيلية.
كما أن قبول السادات قرار وقف إطلاق النار ودخول مفاوضات الكيلو 101 لم يكن فجائيا، بل كان مخططا له من قبل العبور حين تمت صياغة هدف الحرب نصا بتوجيه ضربة قوية للعدو مع استعادة "جزء من الأرض" لتغيير موازين القوى الاستراتيجية، تمهيدا للدخول في مفاوضات سلام طويلة من وضعية أفضل. وهو ما تحقق بنجاح رغم التعثر في إدارة أزمة الثغرة، إذن مصر كانت الطرف المنتصر حسب الأدبيات العسكرية للحروب.
ولو صح أن حرب العبور انتهت بنصر ساحق لجولدا أو إسرائيل، لما تشكلت لجنة أجرانات بطلب من الكنيست لاستجواب جولدا وموشي ديان عن خسائر الحرب وسوء إدارتها من الأساس!
جولدا فيلم متواضع فنيا، لكنه أكثر موضوعية من أفلام البروباجندا المعتادة وإن لم يتخلص، تماما من سماتها.
السينما ليست وثيقة تاريخية في العموم، لكن من المهم تدبر رؤية الآخر لتاريخنا بغض النظر عن دقة روايته، فالتاريخ له ألف وجه، يبدلهم حسب نية وذاكرة الراوي.
وكلاهما لا يُعَوَّل عليه في حالة راوينا!
التعليقات