العراق مَهْد الحياة.. أهدت الإنسانية حضارات بلاد بين النهرين. السومرية والأشورية والبابلية. من مَسَاخِر الزمن أن تصبح الحياة على أرضها صراعا طويلا من أجل البقاء.
طَلَّ علينا العام الماضي هذا الفيلم العذب "جنائن مُعَلَّقَة" ليحصد جائزة أفضل فيلم في مهرجان البحر الأحمر السينمائي بالسعودية. هو العمل الأول لمخرجه العراقي الأردني أحمد ياسين دراجي كما شارك في إنتاجه المنتج والسينارست المصري محمد حفظي.
شتان بين جنائننا المُعَلَّقَة وحدائق بابل الساحرة.
الجنائن هنا مجرد مَكَّب نفايات ضخم يجمع مخلفات المدينة وقمامة البشر. بطلنا، الطفل أسعد "حسين محمد" ذو الإثنى عشر ربيعا يعمل صُحْبَة أخيه الشاب طه "وسام ضيا" في التقاط المقتنيات من القمامة ثم بيعها لتجار النفايات. تارة يعثرون على كشف ثمين وتارة يعثرون على جثمان طفلٍ رضيع، لفظه أبواه.
يكبت طه رغباته الفائرة سِراً حين يختلس النظر إلى ابنة الجيران من خلال ثقبٍ حفره في حائط أسمنتي بناه فوق سطوح منزله.
حائط ظاهِرَهُ ستر العورات وباطِنَهُ التلصص!
في حين يواجه أسعد بؤس طفولته بقلبٍ شجاع لا يقيم لنفاق مجتمعه وَزْناً. فهو لا يعبأ بالشيخ أو الحاجي أو حاشيته المُسَلَّحَة المُسَيْطِرَة على المنطقة.
ينهر طه شقيقه الأصغر أسعد حين يعثر على مجلات إباحية في غرفته لكن أسعد يبقى متحررا من عقدة ذنب الشغف بالحياة رغم أنف عالمه القبيح. أما طه يظل حبيس طموحه المُنْسَحِق بالزواج وإخلاصه لقيود مجتمعه.
تنقلب حياة أسعد حين يعثر وسط الركام على دُمية جنسية بالية عارية مُصَّمَمَة على شكل فاتنة شقراء ترتدي حَمَّالَة صدر بألوان وشعار العلم الأمريكي. ينقلها خِفْيَةً إلى غرفته فتصبح سِرَّهُ الأعظم. ينظفها من الأوساخ. يتحسس نعومة ملمسها. يتلمس ملامح وجهها. يستكشف قدراتها على الكلام والتفاعل.
حين يطالبه صديقه المراهق بدفع ثمن المجلات الإباحية التي ابتاعها, يضطر أسعد أن يطلعه على سر خبيئته,عَارِضَاً عليه إبرام صفقة تأجيرها للراغبين في المتعة الافتراضية من صبية و رجال الحي ثم تسديد ثمن المجلات من عوائدها.
نستكشف من خلال رحلتهما مع الدمية ظُلُمات هذا الوطن الحزين. تُعَرِّي الدمية سِتْرَ المجتمع عن ورعٍ زائف ورغبات موؤودة وتدني طموحات الشباب الذي اختزل مبتغاه في جسدٍ من السيلكون.
أما أسعد وجد في رفيقته ماهو أكثر من مجرد لعبة جنسية. يعتني بأمرها. يمنحها اسماً. يلبسها ثيابا جديدة وينام جيرتها مثل ملاكِها الحارس حتى أمست رابطه الروحي بالحياة والحرية والحب.
لكن هل لمجتمعه الذي أدمن الموت والعنف أن يدعه يكمل لعبته البريئة بسلام؟
يقول دراجي أنه استلهم فكرة الفيلم في لحظة غضب بعد مشاهدته فيلم "القناص الأمريكي" الذي رَوَّجَ من خلال بروباجندا شديدة الإبتذال للسردية الأمريكية الرسمية عن اجتياح العراق إذ صَوَّرَ الفيلم الجندي الأمريكي بطلا خارقاً "كعادة هوليود"، ينقذ الوطن من بطش الأشرار. أراد دراجي أن يهدي العالم سردية بديلة.
سردية شعبية من واقع الناس العادية القاطنة في أطلال الوطن المجروح. بمعنى أصح، أصحاب القصة الأصليين.
نجح دراجي تماما في خطفنا إلى قلب الواقع من خلال صورة رمادية وأجواء يسودها تلال القمامة وغيوم السماء على خلفية صوتية من طنين الذباب.
كما نجح الفيلم في رسم العديد من المشاهد والكادرات الأيقونية على المستوى البصري والبنائي. حسبي أنها ستُخَلَّد مع كلاسيكيات السينما العالمية.
مشهد الطفل أسعد بجانب الدمية فوق دبابة خَرِبَة من مخلفات الحرب في رسالة ساخرة عن مالآت الحلم الأمريكي الذي أضحى شاهدا على الخراب والموت.
مشهد وقوف أسعد على قمة جبل من القمامة مستخدما نظارة معظمة لرؤية زوار الجنائن من بعيد في صورة محكمة التكوين توحي بانسداد الأفق.
اخفاء أسعد الدمية العارية في قاطرة التوك توك ثم استخدامه العلم المُلَّطَخ بدماء الشهيد لتغطيتها في انتقادٍ لاذع لعبثية الحرب و تهافت شعاراتها.
اختار دراجي الطفل "حسين محمد" دون أن يكون له سابقة تمثيل.
لكن بالرغم من عدم احترافيته, نجح حسين في الذوبان داخل شخصية أسعد بنضجٍ شديد يتخطى عمره الصغير حتى صدقنا تماما أنه إبن هذا العالم البائس. لم يُفْرِط في الانفعال رغم تعبيره الصادق عن كافة المشاعر من غضبٍ وبراءةٍ وخوف .
أرى أن دراجي قدم درساً عبر هذا الفيلم لصناع الأفلام المنتمية لذلك اللون السينمائي الرائج حديثا في عالمنا العربي وربما العالم. سينما الواقعية الحديثة الممتزجة بالفانتازيا والكوميديا السوداء. أفلام على نهج كفر نحوم وريش ويوم الدين.
أثبت دراجي أن سر الصنعة يكمن في معادلة طرافة الفانتازيا بدقة الواقع. أي غرائبية الفكرة مع واقعية العوالم والشخوص.
الدرس الثاني: نقل الواقع القبيح لا يعني بالضرورة قُبْح الصورة السينمائية. ذلك الفخ تحديدا سقط فيه الزهيري في فيلم ريش حين حرص على قتامة الصورة أكثر من حرصه على إعادة تقديم الواقع بخياله السينمائي الخاص.
الدرس الثالث: أن تلقائية التمثيل لا تعني إطلاقا ترك الممثلين الهواة على سجيتهم أمام الكاميرا دون توجيه. وهو توجه ربما لاحظنا نموه مؤخرا عربيا وعالميا في الإستعانة بعوام الناس البسيطة لتأدية أدوار البطولة خصوصا إذا كانت الشخصية تمثل أحد المهمشين في المجتمع. كثيرا ما يأتي الأداء باهتا أو سيئا، إما لانعدام خبرتهم أو ربما لفقر موهبتهم رغم اعتداد المخرجين بتلك النتيجة توهما منهم, أنها تُضْفي مصداقية على العمل!
جنائن معلقة رسالة سينمائية عذبة تروي قصة الوطن والمواطن المجروح كما يجب أن يرويها أصحابها. لذا وصلت إلى القلب رغم ثِقَلِ مَتْنِهَا!
التعليقات