"إن لم يتسبب الإعلان في زيادة المبيعات، فاعلم أنه لم يكن مبتكرا بما يكفي!".
و في مقولة أخرى "أفضل الأفكار تأتي في شكل نكات، فكن مرحا في تفكيرك قدر الإمكان".
مقولتان لديفيد أوجيلفي، الأب الروحي للدعاية والإعلان بشكلها المعاصر، بِدءاً من أربعينيات القرن الماضي، تلخص فلسفته في صناعة الدعاية، وهي نفسها الفلسفة التي اتبعها رواد الصناعة لاحقا حتى تحول الإعلان إلى مزيج من الفن المستقل بذاته والبحث العلمي.
هكذا صَدَّرَت صناعة الدعاية على مدار تاريخها مخرجين موهوبين للسينما من أمثال ريدلي سكوت وديفيد فينشر. وفي عالمنا العربي، شاهدنا رحلة نادين لبكي الناجحة من الدعاية والكليب إلى السينما، حيث كُلِّلَت بوصول فيلم كفر نحوم إلى القائمة القصيرة لجوائز الأوسكار.
مصر ليست استثناءً عن القاعدة، إذ عايشنا نفس الظاهرة مع مخرجين مثل محمد أبو سيف وعمرو عرفة ومؤخرا عمر هلال الذي قدم فيلمه السينمائي الأول "فوي فوي فوي" فهل كانت البداية موفقة؟
قصة الفيلم مستوحاة من تحقيق، أجراه الصحفي محمود شوقي في منصة روسيا اليوم.
تحكي عن حارس الأمن، الشاب الفقير حسن، المتمرد على حياته والطامح للهروب من عالَمِهِ بأي ثمن. لا يجد حَرَجَاً في استغلال عجوز أوروبية من أجل ثروتها أو المخاطرة بالسفر عبر مراكب الموت للهجرة غير الشرعية. المهم، أن يصل إلى الجانب الآخر حيث رغد العيش أو بداية الحياة الحقيقية. يشاركه أحلامه الجامحة صديقان من صعاليك الحي. عامل الدليفري "الطيار"، سعيد وصاحب مقهى الإنترنت، قدرة. بينما لا تتوقف أمه المكافحة في خدمة البيوت عن تبكيته لحثه على إيجاد وظيفة محترمة، تناسب تعليمه. تنقلب حياته رأسا على عقب حين يقرأ بالصدفة خبرا عن استعداد فريق مصري لكرة قدم المكفوفين، للسفر لخوض مباراة في تصفيات كأس العالم للأندية، فيتفتق ذهنه عن تصنع العمى من أجل الانضمام للفريق و السفر معه ثم الهرب إلى العالم الآخر كما كان يحلم دوما..فهل ينجح؟
التزم الفيلم بصرامة لأحكام الكوميديا السوداء. فالضحك هنا ينبع من قلب المأساة. والنكتة يتبعها بكاء أو يمتزج بها. أما الأحداث فتتبع منطق الدراما السليم وليس النهايات المرغوبة من الجمهور أو السوق.
لم يقتصر دور تقلبات حبكة السيناريو العديدة على مجرد الحفاظ على الإثارة ومفاجأة الجمهور كما يحدث عادة في دراما الجرائم، بل دفعت الدراما قُدُما وصقلتها بأبعاد إنسانية أكثر عمقا.
حطم الفيلم تابوهات راسخة في السينما المصرية مؤخراً من حيث:
- ملامح الشخصيات: أخيرا التقينا شخصيات درامية حقيقية من عموم الشعب والطبقات الكادحة، تعيش بيننا في الحارات، نعرف ملامحها جيدا. لا خارقة ولا نخبوية ولا بلطجية ولا تتفاهم بالسيوف والأسلحة البيضاء. رغم ذلك صَدَّقناها وفهمناها رغم عدم مثاليتها ورفضنا لما تقترفه من آثام.
- مصداقية المكان: نجحت الكاميرا والديكورات في نقلنا إلى الحارة المصرية، دون الإمعان في قبح المشهد أو الانفصال عن الواقع بتصوير حارة خلابة من أزقة اليوتوبيا.
-الضحك بعيدا عن الإفيه: ليس صحيحا أن المتفرج المصري أو العربي لا يضحك إلا على الإفيه. وأن درجة انحطاط أو ابتذال الإفيه تتناسب طرديا مع جودة النكتة.
- بيومي فؤاد يمثل: موهبة بحجم و حضور بيومي فؤاد، مازال لديها الكثير من الإبداع التمثيلي دون الحاجة إلى التكرار أو الابتذال. أبدع بيومي في دور الأب، مدرس الألعاب المُحْبَط فأضحك وأبكي وتجلى.
-لا يوجد ورق جيد: السواد الأعظم من الانتاج المصري السينمائي حاليا، يعاني من شح السيناريوهات الجيدة. ذلك أمر صحيح، لكن السبب لا يعود لشح المواهب أو الابتكار، إنما يعود لاختيارات رأس المال في الصناعة، المبنية على قناعات لا تعول كثيرا على الجودة الفنية للسيناريو.
صنعت موسيقى هاني ساري حالة فريدة من التفاعل مع الأحداث، إذ اشتملت على عدة مقاطع موسيقية، متنوعة الأجواء. فتباينت بين الموسيقى الخفيفة ذات الطابع الكوميدي والأوركسترالي التصاعدي والشرقي الحزين بما يناسب طبيعة الأحداث في كل مقطع. حتى الموسيقى المصاحبة، مثل الأغنية الفلكلورية الأرمنية "كارون كارون" والتي أعاد تقديمها بالعربية دريد لحام "فطوم" في مسلسل صح النوم، أتت مناسبة للمشاهِد المختارة لها.
كنت متخوفا من فكرة تصدي محمد فراج للبطولة رغم إيماني بكونه أحد أفضل مواهب جيله لكن كثيرا ما يحرق دور البطولة السينمائي الأول صاحبه. أتت شخصية حسن مناسبة جدا لفراج، إذ منحته المساحة الدرامية الكافية للتعبير عن قدراته التمثيلة كما منحته نوعية الكوميديا المناسبة، المرتكزة على الموقف فتألق فراج، مجتازا خطوة هامة في مشواره السينمائي.
لكن تجدر الإشارة إلى أن أحد أهم عوامل تألق فراج هو تألق معظم الممثلين المساعدين. طارق شوقي أو سعيد "هذه المرة خارج عباءة أحمد أمين"، أمجد الحجار أو قدرة، حنان يوسف القديرة أو الأم، محمد عبد العظيم أو دكتور رؤوف والذي نجح بتمكن في تغيير جلد شخصية سامح النصاب في 100 وش.
فوي فوي فوي أهدانا سينما بنكهة الحياة حيث الضحك لا يميت القلب من سفاهته والحزن النبيل لا يفسد متعة الفن. كلاسيكية مصرية ستنضم لروائع خالدة مثل "الكيت كات" و"الأفوكاتو" و"الإرهاب والكباب".
فيلم مصري البصمة وفي رأيي أفضل ما قدمته السينما المصرية في السنوات الخمس الأخيرة، لذا أتى ترشيحه لتمثيل مصر في الأوسكار بديهيا ومستحقا!
التعليقات