في أُتون عصر الفاشية بثلاثينيات القرن العشرين، اقترح رجل الأعمال وزير المالية الإيطالي "جوسبيه فولبي" على الزعيم موسيليني تدشين مهرجان سينمائي عالمي في مدينة فينوس الساحرة أو البندقية.
بالفعل سَطَرَ التاريخ لهذا المهرجان العظيم صفحات خَلَّدَتْهُ كأقدم المهرجانات السينمائية العالمية التي عرفها الإنسان منذ مولده عام 1932.مع تصاعد التوتر بين أقطاب القارة الأوروبية وعلى صدى طبول الحرب العالمية الثانية تحول المهرجان إلى منصة ترويج للنازية والفاشية مما استفز الوفود الأمريكية والفرنسية والإنجليزية التي ناقشت فكرة تدشين مهرجان مُنَافِس يناسب فكر جبهة الحلفاء التقدمية في ذلك الوقت.
طَحَنَت رحا الحرب أي هاجسة عن إقامة فعاليات فنية إلى أن وضعت أوزارها عام 1945.
مع هلول رياح السلام، أشرقت في العام التالي مباشرة ً شمس أكبر مهرجان سينمائي عالمي على أرض مدينة "كان" الحالمة المستكينة في حضن ساحل الريفيرا الفرنسي.
وُلِدَ المهرجان عملاقا في حضرة أعظم نجوم السينما مثل كيرك دوجلاس وصوفيا لورين وآلان ديلون.
تحمل الدورة الـ76 هذا العام شعارا مميزا، تَتَصَدَرُهُ صورة الممثلة الفرنسية الأيقونية "كاترين دينوف"، مأخوذا من أفيش الفيلم الكلاسيكي La Chamade أو "الخفقان" عام 1968.
ربما كان هذا الشعار المُسْتَمَد من جذور السينما الفرنسية في فترة الإزدهار الكبرى "الستينات" دلالة على صمود المهرجان كرمزٍ من رموز صناعة السينما التقليدية العريقة في مواجهة تيار الرقمنة وتحويلها إلى صناعة ترفيه منزلية تعتمد على منصات البث.
قبل عامين، رفضت إدارة المهرجان السماح لأفلام منصات البث أن تشارك في منافسات المسابقة الرسمية، تأكيدا على وفاء المهرجان لسينما دور العرض كما عهدناها وأحببناها خلال قرن أو يزيد.
أما عن التواجد العربي في المهرجان، فقد اقتصر على فيلمٍ تونسيٍ وحيد. "بنات ألفة" المُشَارِك في المسابقة الرسمية ضمن عشرين فيلما.
الفيلم درامي "شبه وثائقي". يحكي عن أمِ لأربعة فتيات، استيقظت على خبر هروب الشقيقتين البِكر للانضمام إلى صفوف داعش في ليبيا. استعانت المخرجة "كوثر بن هانيا" بمزيجٍ من الشخصيات الحقيقية التي عايشت القصة مع بعض الممثلات المحترفات لتأدية عدة أدوار مثل دور الأختين الهاربتين في الحقيقة!
أما التواجد العربي الثاني فتمثل في الفيلم السوداني "وداعا جوليا"، المشارك في قسم "نظرة خاصة" خارج إطار المسابقة الرسمية. يحكي الفيلم عن علاقة ملتبسة بين مطربة معتزلة من الشمال وخادمة من الجنوب في العام الأخير من الوحدة، قبيل انفصال الشمال عن الجنوب سنة 2011 وتداعيات ذلك الانفصال السياسي على علاقتهم الإنسانية.
اللافت للنظر أن السعودية مُمَثَلَّةً في صندوق مهرجان البحر الأحمر شاركت في انتاج الفيلمين، تأكيدا على سياستها الجادة في تطوير صناعة السينما السعودية.
أما مصر، اقتصرت مشاركتها على فيلم "الترعة" للمخرج الشاب جاد شاهين بصفته أحد الدارسين في المعهد العالي للسينما ضمن قسم مؤسسة السينما المخصص لتشجيع طلبة أكاديميات السينما والفنون في العالم. صورت مشاهد الفيلم في يوم واحد بميزانية محدودة.
الطريف أن مشاركتنا الضعيفة في المهرجان لم تثر حفيظة المهتمين بالسينما المصرية كما حدث عند امتناع لجنة الأوسكار المصرية عن ترشيح فيلم يمثل مصر في منافسة الأفلام غير الناطقة بالإنجليزية. رغم أن تواجدنا في مهرجان كان، هو المؤشر الحقيقي على مكانتنا السينمائية عالميا ومدى ازدهار الصناعة في مصر.
في الآونة الأخيرة، لعبت الأفلام المستقلة دور سفير السينما المصرية حيث نال فيلما "ريش" و"يوم الدين" حفاوة خاصة من جمهور النقاد.
تلك الحفاوة استدعت ذكريات عزيزة عن صولات عميد السينما المصرية في كان، المخرج الكبير الراحل يوسف شاهين.
شاهين ظاهرة إبداعية فريدة. إذ مكنته دراسته السينمائية في الخارج وإتقانه عدة لغات ثم انفتاحه الفكري على العالم الغربي "خصوصا فرنسا وأوروبا" من بناء شبكة علاقات متينة وتأسيس قاعدة جماهيرية في الأوساط السينمائية الأوروبية.
تلك الشهرة التي فتحت له الأبواب للوصول إلى مصادر تمويل عالمية، مَوَّلَت العديد من مشروعاته السينمائية في أفلام من إنتاج مشترك مثل "وداعا بونابارت" و"اليوم السادس".
شاهين هو السينمائي المصري الوحيد الذي ترشح لنيل جائزة السعفة الذهبية أربع مرات ثم نال جائزة خاصة عام 1997 عن مجمل مشواره الفني في نفس العام الذي ترشح فيلمه "المصير" لجائزة السعفة الذهبية. لم تحظ بالضرورة أفلامه بنفس القدر من النجاح الجماهيري داخل مصر، بل أنها كانت في كثيرٍ من الأحيان مثار جدلٍ وربما سخطٍ لأسلوبه الصادم في طرح الأفكار الجريئة والحوار المُسْتَفِز لكل ما هو سائد وراسخ في الوعي الجمعي. لكن تلك الزوابع لم تمنعه من الاستمرار على نفس نهجه المُتَمَرِّد. لذا لم تتكرر ظاهرة شاهين في فضائنا السينمائي منذ رحيله عام 2008.
تحت شمس كان الساحرة، لا يسعني إلا أن أحلم بيومٍ نعتاد فيه على رؤية مواهبنا النفيسة تتألق على السجادة الحمراء وتتوهج من خلال الشاشات الفضية بإبداعات فنية تنقل للعالم دفء شمسنا وتذيقهم حلاوتها.
أحلم بأفلام تشبهنا ولا تتشبه بالآخرين. لها بصمتها ومذاقها الخاص.
وما السينما إلا حلمٌ كبير.
وما "كان" إلا فكرة، عثرت على من يؤمن بها منذ 75 عاما!
التعليقات