الرواية بعالمها الفسيح المبهج تحتوي على آفاق ممتعة، حيوات متعدِّدة لأبطالها، لا يمكنك أن تتخيَّل الجمع بينهم، ولا يمكنك أن تعيش معهم إلا داخل عالم الرواية الرحب القادر على الطيران بكَ في السماء، والهبوط بك تحت الأرض، تجعلك تتنفس في قلب المحيطات، تلعب مع الأُسُود، تعيش ما لا يمكنك أن تتصوره، في دنيا مختلفة، وتَدْخُلك مشاعر مغايرة.
وربما تنجذب وأنت منهمك في القراءة لخيط يسير معك من أول الرواية لآخرها، تجد نفسك ترصده وتتابعه فيستحوذ على اهتمامك، فتتبَّع هذا الخيط وتترك ما عداه من خيوط؛ لأنك في لحظة التعايش داخل الرواية أنت منجذب بقوة لهذا الخيط.
أشياء عديدة تجعل للرواية سطوة وعجائبية، أشياء مترابطة، متناقضة في الوقت نفسه، أفكار مغايرة لما تفكر فيه، وشخصيات لم تقابلها وربما لن تقابها، قد تجد فيها ما تريد وأحيانًا تريد ما تجد، تتفق وتختلف مع محتوى الرواية الجيدة التي تمنحها وقتك، وفي النهاية لا تملك إلا أن تحبها وتستمع بالغَوْص فيها.
ففي الرواية ستعرف طبيعة المغامرة مع سرفانتس، وستدرك ما يدور داخل الانسان وتكتشف الحياة السرية للمشاعر مع ريتشارد سون، ومع بلزاك ستكتشف تجزر الإنسان في التاريخ، ومع فلوبير سترتاد أرض الحياة اليومية التي كانت خافية من قبل، و حين تدخل لروايات تولستوي ستدخل عالم غير المعقول في السلوك والقرار الإنساني، وحين تذهب لبروست ستسبر أغوار الزمن بماضيه المراوغ، وعند جيمس جويس تدخل الحاضر المراوغ، وعند توماس مان ستتفحَّص دور الأساطير القديمة في أفعالنا، وحين تدلف لعالم ديستوفيسكي سترى الإنسان المُهان والمريض النفسي، وعند ماركيز سترى سحر الواقع.
والكتابة عن الرواية ونقدها ومحاولة البحث داخلها ربما تكشف لك جوانب خاصة تساعدك على اكتشاف رؤية ربما تكون غامضة عليك وأنت تقرأ، وربما تؤكد رؤية وصلت لك، وهذه الكتابات التي تطالعها عن الرواية ليست مُلْزِمة لتحديد مسار تفكيرك ومشاعرك، بقدر ما هي ضوء مصباح خاص يضيء إضاءة خاصة بحامل المصباح.
فلكل قارئ مصباحه الخاص والذي يُمَكِّنه من إضاءة العمل من جانبه، وهذا المصباح يحمل رؤيته وثقافته وكل معارفه وخبراته عبر سنوات تجاربه الشخصية.
وربما نقرأ روايات قد يكون هناك مصابيح أخرى أضاءت حولها، ربما هذا الضوء يدفع للاطلاع على الرواية لكنه لا يُغْنِى عنها، فكل مصباح هو ذاتي بقدر كبير.
والمصابيح تختلف في قوة إضاءتها وكشفها، وليس هناك مِنْ حَرَج في أن أضيء لك بمصباحي جانبًا ما كي نراه معًا، فإذا اطلعتَ على العمل اكتشف مصباحك جانب آخر لا يراه غيرك، ربما يختلف ما رأيته معي عمَّا رأيته بنفسك، لكن يبقى الأساس أنَّ لكل منا مصباحه الذي يشارك به الآخرين في كشف جوانب العمل الروائي، وربما يكون هناك مصباح ذو خبرة ودراية لناقد على وعي فتكون إضاءته محيطة بجوانب متعددة، أو يضيء مكانًا خفيًّا لا يراه غير الخبير.
فالقارئ حين يقرأ مقال عن نقد رواية قرأها هو يريد من الناقد أن يعيره مصباحاً كي يضيء له جانباً آخر لم يستطع كشفه من قراءته، يريد أن يستعير مصباح آخر كي يستدل به على رؤيا للرواية ربما تكون أعمق من رؤيته وأوسع في التصور.
فناقد الرواية الواعي الجيد يساعد ويكشف الطريق أمام القارئ، يجعله يبصر طرقاً جديدة في عالم الرواية التي بين يديه كالدليل في الصحراء، يدلك على طريق لا تعرفه مع أنكما تقرآن الرواية نفسها، وتسبحان في المحيط نفسه، لكن خبرة الناقد تكشف المناطق المخفيَّة.
الناقد الجيد المجيد يعرف أن الفكرة موجودة في روح الرواية وفي قلبها، إنها هناك داخل مكان سري يحتاج لمصباح يسلط، وعليه أن يذهب وأن يضيئ المصباح هناك، فيكشف روح الرواية أمام القارئ.
التعليقات