في قلب الإسكندرية، وبالتحديد في قلب دوران ميدان فيكتور عمانويل، عند بنزينة سموحة، في ركن شارع صغير جانب البنزينة، وقَبْل الفجر بقليل كانت أصوات المظاهرات آتية من بداية شارع فوزي معاذ، من ناحية مسجد علي بن أبي طالب، كنت أرى المظاهرات تقرَّب إلى أن وصلتْ أمام البنزينة، وبدأت تتجمَّع في ميدان عمانويل، وكأن طابور المظاهرة كسحابة لا تنتهي، شعرتُ كأنها نهر يقذف شلال آدميين لقلب ميدان عمانويل.
شد انتباهي شاب ملتحي واقف جانب محل لبيع ملابس الأطفال وحوله مجموعة شباب في زهرة العمر الطري، حوالي خمسة، يرتدي الملتحي طاقية تشبه طواقي أفغانستان، ويضع على كتفة غُترة كالتي يرتديها محبّي ياسر عرفات، قلت لنفسي يجب أن أعرف ماذا يحدث في ركن الزقاق.
قبل أن أصل للتجمُّع حول الشاب الملتحي، أُلْقِيَتْ قنبلة مُسِيلة للدموع أمام الشاب الملتحي، وحين بدأت تخرج الغاز من بطنها، قام الملتحي بكل شجاعة وقذفها بقدمه اليمنى بعيدًا عن المجموعة التي تقف معه، سقطتْ القنبلة المسيلة للدموع علي شاب يسير في المظاهرة لسلمية التي تمتد بطول الشارع، ضحك الملتحي وهو يقول: "الحمد لله إن القنبلة راحت عند البنات المايصة، اللي نازلين من بيتهم في وقت متأخر ومعاهم شباب خنافس، مش عارف بيعملوا إيه في الثورة".
وجدتُ الشاب الذي وصفه الملتحي بالخنفس يحاول التعامل مع القنبلة على الرغم إن نَفَسه كان يخرج بصعوبة من أثر دخان القنبلة، وكاد يغمى عليه.
الملتحي مال إلى جنب وأخذ حجارة من وراء ظهره وقال: "كل واحد يمد إيده"، وفعلًا كل شاب من الواقفين حوله مد يده وأخذ من الملتحي مجموعة طوب وزلط وقال الملتحي: "كله يجري عند ميدان عمانويل لحد ما تقربوا من عساكر الأمن، احدفوهم بالطوب والزلط، ونتجمَّع تاني هنا، في نفس المكان، عشان نشوف نتيجة اللي عملناه، لازم نخليهم يسيبوا مكانهم، حتى ولو عَوَّرُونا، لازم نسيطر علي مديرية الأمن، ونحسسهم بالذل والعار، مهما حصل لازم نستولى على مديرية الأمن، نتعاهد كلنا بأرواحنا".
مد يده اليمين وكل شاب من الخمسة مد يده اليمين وأنا وضعتُ يدي وقلت "وشَبْكة العَشَرة دُول" قال الملتحي: "شَبْكة عَشَرة إيه يا أخ، ده عهد علي الجهاد، وده التزام لينا كلنا"، قلت: "ماشي، وشبكة الجهاد دول".
لاحظت إن الشباب كلهم يكتمون ضحكاتهم، والملتحي ظل يقول كلامًا ونحن نردّد وراءه، لا أتذكر من كلامه غير كلمة الجهاد والجنة، وفجأة رفع يده وراح يوجهها ناحية ميدان عمانويل، وقال بصوت يشبه صوت أنور وجدي في أمير الانتقام: "إلى الجهاد" أنا شعرت أن الدم يغلي في عروقي وكنت أريد أن أحطِّم مديرية الأمن وأهدمها على من فيها، دون أن أدري السبب، فقط وجدت دمي يدفعني لفعل ذلك، وأصبحت أعصابي ملتهبة تريد أن تفتك وتدمر، وظل الملتحي يكرر: "إلى الجهاد، تقدموا، لا تتراجعوا يا شباب".
انطلقنا كلنا، خَطَوْتُ ثلاث خطوات، ثم نظرتُ ناحية الملتحي فوجدته واقفًا مكانه، لا يتقدم للجهاد، قلت له: "طب وانت؟" قال: "أنا ايه؟" قلت له: "مش جاي معانا للجهاد؟".
رجع الشباب إلينا خطوة ؛ ليسمعوا الحوار بيني وبينه، قال:
- أنا دوري حاجة تانية.
- يعني دورك تسخَّنا وبس؟!
- يا أخ.. أنا أولًا بجمع الطوب عشان المجموعة، وأنا واقف هنا عند نقطة التجمُّع، عشان كلنا نبقى يد واحدة، أنا هنا عشان المجموع ودوري مش عايز أقول أهميته.
- دورك واضح ممكن أنا أعمله (أشرت للشباب) يا جماعة.
ورفعت يدي بكل قوة وعزم، وأنا أشير لميدان عمانويل وقلت: "إلي الجهاد" بصوت جهوري والتفتُ ليه وقلت له:
- روح بقى عند الميدان.
- الحكاية مش كدة، الحكاية في التجمُّع، والتوجيه، أي واحد ممكن يروح يرمي طوب، وأنا مش خايف على نفسي، أنا بس بنظم الجهاد وده أهم الأدوار.
- أي واحد فينا ينظم.
- ما ينفعش.
نظرت للشباب، فنظروا للملتحي من فوق لتحت وهو يربط غترة ياسر عرفات علي رقبته، وراحوا للمظاهرة السلميَّة.
خطوتُ خطوتين ثم رجعتُ للملتحي مرة أخرى، وجد معه خمس شباب آخرين يضع يده في أيديهم ويوزع عليه طوب وزلط، وحين رآني انكسرت عينه، وتلجلج، واحمر وجهه، ونظر للشباب معه، وصرخ بصوت أنور وجدي: "إلى الجهاد، إلى الجهاد"
ورجع خطوتين وهو يبص لي من تحت لتحت، وانحنى على الأرض يجمع الطوب.
التعليقات