صدر عن دار الكرمة، كتاب المَوْلُودَة، يقع الكتاب في 551 صفحة من القَطْع المتوسط (رواية نائلة كامل المَوْلُودَة ماري إيلي روزنتال) للأستاذة نادية كامل المُخْرِجة المصرية التي ولِدَت في القاهرة عام 1961. دَرَسَت الكيمياء والميكروبيولوجى قَبْل أن تتجه للسينما. عملت كَمُسَاعِدة إخراج لعطيات الأبنودى ويوسف شاهين ويسرى نصر الله. ألَّفَت وصوَّرت وأنتجت الفيلم الوثائقى "سلطة بلدى" الذى لاقى تقديرًا كبيرًا.
كتاب المَوْلُودَة بوح شفيف، وخروج من الذات البريئة وكأنها ولدت لتقص هذه القصة.
تروي الرَاوِيَة حكايتها الشخصية منذ طفولتها، وتكشف لنا التفاصيل الدقيقة للمجتمع المصري في ثنايا الحكايات، إلى جانب أنها تَعْبُر بنا لشخصيات شهيرة، تروي تفاصيل من حياتهم التي شاهدتها بعينيها، تحكي ببساطة وعفويَّة كل ما يَجُول بذاكرتها الحيَّة المتوقِّدة، وهي المسؤولة الوحيدة عما تحكيه، فالكتاب ينتمي لفن السيرة الذاتية ويدخل في باب التراجم.
والدها مصري يهودي، وأمها إيطالية مسيحية، تَقَابَل والدها ووالدتها في مصر في عشرينيات القرن الماضي، تزوجا وأنجبا ماري ايري روزنتال التي عاشتْ في القاهرة ثُمَّ انضمتْ إلى الحركة الشيوعية والعمل السري، دخلتْ السجن وأحبتْ صحفياً ومناضلاً مصرياً وتزوجت منه.
تحكي وهي في السبعين لابنتها عن مصر أخرى، ليست الموجودة الآن، بأحوالها وناسها.. من الحكايات الظريفة التي ترويها، إنه قد نشأت علاقة بينها وبين ابن الجيران وهي طفلة، كانت لا تستطيع أن تُجْرِي العمليات الحسابية فجاءتها فكرة جهنمية، أن تستغل وجوده في الشُّرفة، وكتبت بالطباشير على خشب الشيش مسألة الحساب 2+6= فكتب لها على الحائط "8" وظلت تنقل الاجابات في الكراسة، كانت تُلْقِي له بالفاكهة ويُلقي لها نوع آخر من الفاكهة، حَتَّى لا حظت الجارة ذلك؛ فأخبرتْ أمها وانتهتْ العلاقة البريئة.
تروي عن ذكريات المجتمع المصري في ذلك الوقت والذي كانت أفراحه تنتهي دائماً بمشاجرة تحدث لأتفه الأسباب، وإذا بالفَرَح والرقص ينقلب لمعركة شديدة تنتهي في قسم الشرطة.
تتذكَّر سينما "بارادي" على اعتبار أنها من أحلي المُتَع التي كانت تشعر بها وقتها، فقد كانت سينما "بارادي" تُقَدِّم وقتها ما يسمي "خِدْمة الخُشَاف" وهي خدمة مجانية تُقَدَّم لكل حامل تذكرة للسينما، يجلسون على مناضد عائلية، قَبْل العرض، وتأتيهم أطباق الخُشَاف من فواكه الموسم وعليها الصنوبر واللوز والبندق والتين المجفف، وفور أن يتم الانتهاء من أكل طبق الخُشَاف المجاني يبدأ العرض.
يدخل زوجها سعد كامل السِّجن بعد تقديم قضية الجبهة الوطنية للمحاكمة ثُمَّ يتم القبض عليها بعد أيام قليلة، ولا تعرف السبب، وتم الحكم عليها بخمس سنوات مع الشُّغل، وبدأت رحلتها في السجن.
تحكي عن ثلاث سجينات ليس لهن أي علاقة بالشيوعية، قابلتهن في سجن مصر، تحية كاريوكا، وعلية توفيق زوجة يوسف صِدِّيق عضو مجلس الثورة والثالثة زوزو ماضي الممثلة.
تحية كاريوكا في السجن
تدخل تحية كاريوكا السجن فينقلب رأساً على عقب، كل الأمور تصير مشدودة على قدم وساق، المسجونات، سياسيات وغير سياسيات، السجَّانات بكل الرُتَب يحاولن أن يَعْبُرن أمام زنزانتها، فقط ليلمحن شكلها، حتي الضباط، بل أيضاً مدير السجن نفسه كان يأتي خصيصاً إلى زنزانة تحية كاريوكا، ليس فقط من أجل السلام عليها، بل ليعرضوا عليها خدماتهم وإن كانت في حاجة لشيء.
أصبحت تحية كاريوكا رئيسة السجن، شاهدوا منها ما يؤكد أنها مسؤولة عن تغذية الانسانية كلها وليس ضيوفها فقط، كانت تشتري الأشياء من خارج السجن، وهذا غير مسموح به، اشترت كاكاو ولبن وكانت تعطي كل صباح السَّجينات عندما يذهبن إليها بعد أن تأمر بفتح الزنزانة .
كانت تتمرَّن يوماً، وتؤكد أن التمرينات من أجل ليونة العضلات التي رُبَّما جَفَّت، وهذا يمنعها من الرقص، والسجينات كن يمارسن التمارين الرياضية معها، ويتعلَّمن حركات البطن الدائرية منها، وفي أثناء ذلك تحكي الحكايات وتُجِيب عمَّا يشغل بال السجينات.
تحية كاريوكا متماسكة، لم تهتز، على الرغم من أن مفهومها السياسي كان عاماً جداً، وبفضلها مَرَّت على السجينات أربعة أشهر بسهولة.
السجينة علية توفيق
كانت عكس تحية كاريوكا، في الجسد والشخصية، فهي رفيعة، قصيرة، بَشْرتها رقيقة بيضاء، شعرها خفيف مُمَوَّج، تحية كاريوكا تحب فنون التمثيل والرقص، أما علية فقد كانت تحب الشِّعر، كانت ممتلئة بالحماس، تقول دائماً شِعراً وطنياً، طوال الوقت، وبالذات أبيات أبي القاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر
كانت علية إذا تحمَّست في السجن لقضية أو لفكرة سياسية تصعد فوق أي شيء أمامها وترفع يدها وهي تهتف: "إذا الشعب ... " بحماس وطني شديد، كانت خبرة في عالم ضباط الجيش والبوليس، تفهمهم جيداً، عقلية مغايرة لعقلية تحية كاريوكا تماماً. تحصل على طلباتها بمنطق بسيط مع الضباط، كانت السجينات في حاجة للقطن، لاستخدامه في العادة الشَّهرية، وقد منعه الضابط لأنه لا يعرف لماذا تستخدم السجينات هذه الكميات من القطن، ذهبتْ علية توفيق للضابط وقالت له أن يسأل زوجته لماذا تستعمل السيدات القطن، اعتذر الضابط بعد ذلك وصرَّح باستخدام القطن.
لم يكن معروفا السبب الذي تم سجن علية توفيق من أجله، فقط ما سمعته عن صراعات داخل الجيش أو داخل البوليس، كانت علية الزوجة الثانية ليوسف صديق، وقد كتبت مذكراتها مؤخراً، مذكرات عن هذه الفترة وأيامها في السجن.
زوزو ماضي: سجينة من طراز خاص
لم تدخل السجن في قضية سياسية كتحية كاريوكا أو علية توفيق، فلم يكن لها في السياسة، كانت تُهْمَتها مخدرات أو آداب، لم تكن التُهمة واضحة، ولم تعرف الرَاوِية أبداً ما انتهت إليه القضية.
أرادت السجينات السياسيات عَزْل زوزو ماضي عنهن فلم تسمح لهن بذلك، أصرتْ أن تكسبهن، وعرفت كيف تحتويهن جميعاً، احتوت الضباط والمسؤولين بشكل مختلف عن تحية كاريوكا وعلية توفيق، ببساطة، استخدمتْ معهم القُدْرة المادية، ولا تعرف الرَاوِية إن كانت زوزو قد أَهْدَتْ للمسؤولين في السجن بعض الهدايا، كانت تطلب من ابنتها "إيفون" طلبات لا نهاية لها، وتأتي "إيفون" يومياً ومعها الشاي والعصائر وأشكال المأكولات المختلفة، والحلويات والشكولاتة، والملابس، تبهر الجميع باستعراضها المادي.
كان هناك شيئاً آخر ميَّز زوزو ماضي في السجن، كانت تحكي القصص بطريقة تشد القلب، تحكي للبنات عن قصص الحب التي يرغبن فيها، وتمثل القصص أمامهن، لقد استخدمت مع السجينات السياسيات الحكايات، ولم تستخدم القدرة المادية حَتَّى إن الرَاوِية تعتبرها حكاءه درجة أولى وسيناريست ممتازة. لقد سَحَرَت الجميع واستطاعتْ أن تتجاوز النظرة التي نظرن بها إليها كسجينة مخدرات أو آداب، سَحَرَتْ الجميع، المسؤولين والسجينات. كانت لها نظرية في الجسد، تقول إن الاثارة الجنسية موهبة تشبه كاريزما الكاميرا، نوع من كاريزما الجسد، جسد الانسان كله من دون عري أو تعري، كانت تقول إن تأثير الجنس على شخص عبارة عن كيماء ليس لها علاقة بمقاييس الجمال، كانت تأخذ السجينات السياسيات لعالم ليس لديهن خبرة فيه، خرجتْ زوزو ماضي من السجن تمثل ولم يعرفن هل قضيتها مخدرات أم آداب.
محسنة توفيق: السجينة الموهوبة
في سجن القناطر، ومن عنبر المعتقلات الجديدات كانت تقعد هناك على طرف شباك العنبر، سجينة تغني للمسجونات أغاني أم كلثوم، كان الصمت يسود العنابر ساعتها ولمَّا سألت الرَاوِية عن اسمها قالوا: ممثلة جديدة، موهوبة، اسمها محسنة توفيق، لم تتعرَّف عليها إلا بعد مرور ما يقرب من خمس عشرة سنة عن طريق رعاية النمر، وكان معهم وداد متري.
تسرد أيضا من ضمن ذكرياتها عن استغفال المحتل للشعب، تروي عن الطلاينة الذين كتبوا على الجدران" w v.e.r.d.i – فيردي، مؤلف أوبرا عايدة الشهيرة، وحرف w اختصار فيفا بمعني يعيش أو يحيا، أي عاش فيردي، ولكن الحقيقة أن كل حرف من حروف فيردي كان يرمز لكلمة من شعار سياسي وطني ضد الاحتلال، الشعار هو "عاش فيتوريو إيمانويلي ملك إيطاليا (Viva Vittorio Emanuele Re d'Italia ) شعار وطني ينادي بمَلِك لإيطاليا الموحَّدة، مَلِك متوَّج من الشعب والقوى الوطنية، ولم يفهم النمساويين أن هذا الشعار ضدهم إلا بعد مُدَّة.
جمال عبد الناصر وتيتو
وتتذكَّر أن جمال عبد الناصر كان في يوغسلافيا عند تيتو أوائل الستينيات.. يقولون إن شخصاً قد نجح في وضع ورقة في يد تيتو وهو مع عبد الناصر، مكتوب فيها "واحد من الشيوعيين قُتِل في مصر داخل المعتقل بسبب التعذيب" شُهدي عطية، قرأ تيتو الورقة ونظر لعبد الناصر وقال: أحد الشيوعيين مات في السجن عندكم. قال عبد الناصر: لا أعلم. كيف يكون بطل من أبطال "باندونج" للسلام وعدم الانحياز والاشتراكية ويقوم بعمل صفقات مع بلد اشتراكي بينما المعتقلات مليئة بالشيوعيين والتعذيب قائم.. عبد الناصر أرسل يعزل المأمور الذي حدثت الحادثة تحت إدارته ولم يقم بمراجعة جهاز التعذيب والمباحث.
فؤاد حداد يطلب زيادة راتبه
تقول إن فؤاد حداد كان من الذين تم رفع الحظر عنهم وانفتح لهم امكانية التعيين في المؤسسات الصحفية والثقافية وتم تَعْيِنه في "روز اليوسف" بمرتب صغير فأتى يشكو لسعد كامل؛ على اعتبار أن سعداً يمكنه أن يقوم بمحاولة لزيادة مرتب فؤاد حداد، لأنه متزوج وله ثلاثة أولاد، فؤاد حداد الموهوب الحسَّاس وهو يعي قدراته جيداً، خليط غريب من الحساسية والثقة، كان يشرح لسعد بمنهى الجديَّة: أنا أكبر شاعر شعبي في مصر، حالياً، ليس معقولاً أن يعاملوني بهذه الطريقة. ولم يكن فؤاد حداد يعلم أن سعداً نفسه كان عمله في الأخبار على كف عفريت، فلم يستطع فعل شيء.
يوسف إدريس
أما أجمل الذكريات بالنسبة لها مع يوسف ادريس، عندما كانت هي حامل وكانت زوجة يوسف ادريس حامل، اقترح أن يذهبوا جميعاً للعين السخنة من الصَّباح الباكر لقضاء يوم على البحر. ركبوا سيارة يوسف ادريس الفولكس، بعد أن وصلوا أحضر يوسف ادريس الشمسية وقام بتهيئة المكان للصيد ثُمَّ لم يستطع الصيد بسبب شقاوة ابنه، فقد أهلكته متابعة الصبي على الشاطئ، وفي نهاية اليوم جَمَعَ ادريس أدوات الصيد ووضعها في السيارة وعادو، استغربت هي كيف استطاع يوسف ادريس أن يبذل كل هذا المجهود ويظل متيقظاً بكامل طاقته، يهتم بكل شيء حوله، ويصنع كل الأشياء بنفسه، طاقة مرعبة.
وتذكُر أن يوسف ادريس في رحلة من الرحلات للنوبة كان يغازل سيدات وبنات صغيرات على المركب، فلما عَلِمت زوجته تعاركت معه وقال من حوله من الرجال إنه لا يصح أن يعاكس يوسف ادريس البنات، لكنهم استنكروا أن تفضحه زوجته تلك الفضيحة، قالوا: هذا لا يصح. كان هذا كلام الرجال أما الرَاوية فقد كانت داخل أعماقها تمدح زوجة يوسف ادريس، لكنها لم تتدخَّل، وتؤكد أن يوسف ادريس استمر به هذا العيب لآخر حياته على الرغم من كل مميزاته.
وتستمر الحكايات ولا تنتهي عن عبد الستار الطويلة وثروت عكاشة وبهجت عثمان وزكريا الحجاوى وسيد مكاوي وصلاح حافظ وغيرهم كثير مما يزخر به كتاب المَوْلُودَة.
التعليقات