ليس هناك شك أن نجيب محفوظ كان يكن تقديرا كبيرا للرئيس جمال عبدالناصر باعتباره كان أكبر نصير للفقراء في تاريخنا كله، وهذا المعيار كان في ذهن الكاتب دائما، فكان يفرح ويؤيد كل قرار يتخذه عبدالناصر، ومع ذلك كان ينتقد الأسلوب الحماسي في السياسة الخارجية.
يقول محفوظ: لقد تحول عبدالناصر لفارس مغوار ومحرر عالمي، وهذا حقق مجدا شخصيا له، لكن مصر خسرت الفرصة. أنا ضد استفزاز الدول الكبرى، لأن السبب الأول لمجئ ثورة يوليو ومجيء عبدالناصر هو سوء أوضاع الشعب المصري.
لقد كان محفوظ مهموما بالسياسة العامة، وأيقن أن السياسة إذا لم تكن كل شيء، فإنها في كل شيء.
ويوضح منير عامر في حواره مع نجيب محفوظ (مجلة روزاليوسف – العدد 1848 - 11 نوفمبر 1963) أن نجيب محفوظ يتحدث في السياسة لأول مرة، فهل هذا يعني أن كاتبنا الكبير منذ أن بدأ حواراته في الصحافة لم يتحدث في السياسة من قبل، مع أن معظم أعماله وإبداعاته بها روح سياسية تسري في أوصالها ومن بين سطورها؟ ومن هنا تأتي أهمية حوار منير عامر مع كاتبنا الذي كان يعمل موظفًا ولا يتحدث في السياسة طوال النهار مثل الكتاب الآخرين الذي يعملون في الصحافة، وتكاد السياسة تكون خبز حياتهم اليومية.
ولكن نجيب محفوظ يوضح لمحمود الخطيب (مجلة الطليعة – يوليو 1977) أن جيله كان يمزج السياسة بالكرة خلال اللعب مع الفرق الإنجليزية. ونعمل على الفوز عليهم حتى بالعنف، كسبيل لرد الاعتبار.
ويوضح لعائشة أبوالنور (مجلة آخر ساعة – 6 أغسطس 1980) أن السياسة المفروض أن تكون الحكمة التي توفر للبشر السعادة والتقدم.
ويؤكد لصالح مرسي (المصور – 3 فبراير 1984) أننا يجب أن ندرس السياسة العالمية، والوضع العالمي، جيدا. إننا نعيش هذه الأيام في عالم به عمالقة، فإذا أردنا الحياة في هذا العالم، وجب علينا أن نعرف ما الذي يريده العمالقة، وأن نضع خطتنا بحيث نتجنب إثارة غضب الأسد، فالمسألة ليست مسألة شجاعة فردية.
ويخوض محفوظ أكثر في الحديث في هذا الجانب عندما يقول: فمثلا، إزاي اتحدى أمريكا، وازاي اتحدى الاتحاد السوفيتي؟ ويجيب: على سياستنا أن تكون: ازاي أستفيد من القوى العالمية من تحقيق ذاتي، أشوفهم عاوزين إيه، دون تحدٍّ.
ويتساءل: هل ممكن أن يحقق لي الحياد الإيجابي هذا المبدأ؟ إن كان ممكنا يبقى كويس، وان اعتبروني الاثنين مش معاهم، تبقى وحشة. ولقد أعطانا التاريخ مثلا يراه نجيب محفوظ واضحا، إن محمد علي أعاد صياغة مصر من جديد، وصنع في مصر ما حوَّلها إلى دولة متحضرة، لكنه أراد أن يصبح إمبراطورًا، ناسيًا أن هناك إمبراطوريات أقوى منه لن تسمح له بذلك، وكانت النتيجة أنهم ضربوه والأهم من الضرب، أنهم صنعوا النهضة التي صنعها.
ولكنه يعدِّد إيجابيات عبدالناصر ابتداء من الإصلاح الزراعي، حتى المظلة الاجتماعية و"إعادة التكوين الطبقي". - ويعتقد صالح مرسي أنه كان يقصد تذويب الفوارق بين الطبقات - مرورا بالسد العالي والقومية العربية.
ويقول لمرسي: لو أنك عدت إلى الوراء، وتذكرت كيف أيَّد الشعب ثورة 23 يوليو تأييدًا مطلقًا، ثم، لو أنك تصورت أن تلك المجموعة التي قامت بالثورة قد أسست حزبًا ونزلت الانتخابات، لتيقنت أن هذا الحزب كان سيكتسح كل الأحزاب الأخرى بلا منازع. لو أنهم أسسوا حزبًا ونزلوا الانتخابات لما أصبح الوفد أكثر من حزب معارض له وزن.
أيام عبدالناصر كنت أنا وأنت نفتح أعيننا الصبح نلاقي قرار .. واحنا وحظنا. هكذا كان الأمر، وكان القرار بطبيعة الأمر، إما أن يرفعنا إلى السماء، أو يخسف بنا الأرض. يعني كل المكاسب التي حصلت أيام عبدالناصر فقدان الديمقراطية هو اللي ضيعها. هل كان التعذيب – مثلا – الذي مورس في تلك الأيام من الممكن أن يتم لو أنه كانت هناك حرية رأي، وحكم ديمقراطي، وحرية صحافة.
وقبل الثورة كانت مثل هذه الأحداث فردية، ولا تحدث إلا في عهود انقلاب ديكتاتوري .. وكانت بتتفضح.
ويصل نجيب محفوظ في حواره إلى ذروة رأيه في عهد عبدالناصر عندما يقول: استطاع هذا النظام أن ينال من الشخصية المصرية .. كان الخوف مسيطرًا على الناس.
ويؤكد لمرسي أن السياسة لا تعرف الانفعال والكبرياء الشخصي، والفعل ورد الفعل، السياسي يجب أن يكون باردًا تمامًا. ويعطي مثلا باليابان التي فتحت أبوابها للولايات المتحدة الأمريكية، استوعبت قوتها، حتى استطاعت اليوم أن تهددها اقتصاديا، وهذه حرب ولكن بشكل آخر. مشددًا أنه لا سبيل إلى المستقبل إلا من خلال هذا الأسلوب الذي يرعى مصالحنا بعيدًا عن وجع القلب. قائلا لصالح مرسي: أوعى تفهم من كلامي أني بافراط في كرامة البلد، بالعكس، أنا هدفي المحافظة على الكرامة، والمحافظة على المصلحة في نفس الوقت. موضحا: أننا دولة صغيرة، ويجب أن يكون هدفنا في الحياة هو أن نتقدم في حدود، وأن نبلغ الذروة المتاحة لنا بكل المعاني التي تتصل بالكرامة البشرية. إن الكرامة البشرية هي التقدم في الصناعة والزراعة والعلم والتعليم وأسلوب الحكم وكل نواحي حياتنا.
ويضيف: إن أول ما يجب أن نفكر فيه هو أهدافي، هذه لا يجب التفريط فيها بأي معنى، وإذا تعارضت هذه الأهداف بما لا يقبل الحلول، ولا يعود أمامي إلا الصدام حتى ولو كان فيه فنائي، وجب علي أن أصطدم، ذلك أن هدفي، هو كرامتي. ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه.
ويقول لعماد الغزالي (الوفد 1987): اتهموني بأني تجاوبت مع فترة عبدالناصر، وتجاوبت أيضا مع فترة السادات، والمسألة ليست بهذا الشكل، وتصويرها هكذا ينطوي على خطأ كبير. أنا كنت صوتًا معارضًا في عهد عبدالناصر، وأعمالي تدل على هذا، وكانت وجهة المعارضة الوحيدة فيما يتعلق بالحريات. أما إيجابيات الثورة، فكنا معها تمامًا، وحينما جاء السادات كنا معه في حالتي النصر والسلام، ولكن كل ما حدث بعد ذلك من ممارسات فترة الانفتاح كنتُ ضدها على طول الخط. وهذا الرأي نشرته في "يوم قتل الزعيم" فلا يمكن اعتباري متجاوبًا بلا قيد ولا شرط.
وقد عاصر نجيب محفوظ الزلزال العربي الذي هبَّ في منطقة الخليح صبيحة 2 أغسطس 1990، بدخول قوات صدام حسين الأراضي الكويتية لغزوها ومحاولة ضمها إلى الأراضي العراقية، مما أدى إلى اشتعال المنطقة، ودخولها في نفق لم تستطع الخروج منه حتى الآن، فقد كانت التداعيات رهيبة ومتسارعة ومتلاحقة، لا تخطر على قلب بشر.
وقال لناهد فريد (روزاليوسف - أغسطس 1990): أنا أعتبر غزو الكويت جريمة، وأعتبر الرئيس صدام حسين هو المسئول الأول والأخير عما يحدث في المنطقة.
ويضيف: لقد أضاع الرئيس صدام الكويت، وهو المتسبب الوحيد بلا شك في حشد الحشود الأجنبية في المنطقة. ولكن مع هذا فأنا ضد الحرب تمامًا، حتى لو كانت نتيجة هذه الحرب عودة الكويت مرة أخرى، فالخراب الشامل الذي سوف تحدثه أي حرب تقع في المنطقة لا يمكن أن تجعلنا نتطلع إلى حدوثها أيًّا كانت النتائج.
ويتعجب محفوظ من الزعماء العرب الذي يناصرون الرئيس العراقي، رغم أنهم أدانوا الغزو من البداية، فإذا كانوا فعلا يريدون مصلحة الأمة العربية كما يقولون، فلم لا ينصحونه بإنقاذ هذه الأمة مما يتربص بها من أخطار؟
ويؤكد أن موقف مصر جاء متناسقًا مع كل المبادئ العالمية، ومع ميثاق جامعة الدول العربية، واتفقت في هذا الموقف المصالح مع المبادئ.
التعليقات