لا نستطيع أن نقول عن رواية "البيضاء" ليوسف إدريس سوى أنها رواية الصراع بين الغرب والشرق، بين الشمال والجنوب، بين التفكير العقلاني والتفكير العاطفي، لقد استطاع يوسف إدريس أن يجسد في عمله هذا كل الصراعات النفسية التي تمر بها الشخصية الرئيسية في الرواية، وهي الدكتور يحيى طبيب ورش عمال السكك الحديدية من خلال علاقته ب "سانتي" تلك الفتاة اليونانية البيضاء التي ترمز إلى الحضارة الغربية في هذه الرواية القديمة / الجديدة ليوسف إدريس .. فقد كتبت هذه الرواية ونشرت أول مرة في أواخر الخمسينات الميلادية، ثم أعيد طبعها ونشرها مرة أخرى من خلال سلسلة روايات الهلال.
وإذا كان بطلا روايتي "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، و"الحي اللاتيني" لسهيل إدريس ـ على سبيل المثال ـ قد ذهبا إلى الغرب وانبهرا بحضارته وعقدا سلسلة من العلاقات المتشابكة مع الحياة هناك، فإن الغرب هو الذي يجيء من خلال "سانتي" و"لورا" إلى بطل "البيضاء" حيث ينبهر الطبيب يحيى بهذا الغرب وهو يمارس حياته في القاهرة، ولأنه شاب في الخامسة والعشرين من عمره، وعلى درجة من الثقافة، ولأنه من دعاة التحرر من الاستعمار والمطالبة بالاستقلال، فإنه رأى في "سانتي" حلمه في التحرر، ولكن هيهات أن يتحقق له ذلك، ومن خلال فصول الرواية يتضح لنا مدى العذابات النفسية التي يلاقيها في تعامله مع هذه العقلية التي تظهر له أحيانا بصورة محافظة، وأحيانا أخرى بصورة غير ذلك ولكنها في جميع الأحوال تحافظ على نهج معين وطريقة تفكير معينة في التخاطب مع هذا الشرقي الذي تريد منه أن يظل صديقا فقط، وليس أكثر من ذلك، والذي تستعذب عذاباته وتقلباته النفسية واضطراباته العاطفية، ولا تريد أن تنتشله من تلك العذابات، حتى أن يحيى نفسه استعذب هذه العذابات وهذه الصراعات والاضطرابات المحتدمة، ولم يفكر طوال هذه العلاقة في أن يقطعها أو ينقلب إلى الموقف الضد أو يمضي في تنميتها بالطريقة التي يرغب فيها هو، إنه يتحرك من خلال القيود النفسية التي تفرضها عليه "سانتي"، ودائما ما يصاب بالفشل إذا حاول الخروج من دائرة هذه القيود.
وهو إذا كان قد قدم لنا "سانتي" الفتاة الغربية المتزوجة والمحافظة على ارتباطها بزوجها "الغربي" دون تفريط في حقوقه كزوج وحبيب أحبته منذ الطفولة ثم ارتبطت به رسميا عند النضوج الفكري والعاطفي، فإنه ـ أي المؤلف ـ من ناحية أخرى يقدم لنا "لورا" الفتاة الفرنسية، كرمز أو كصورة أخرى مغايرة للغرب، صورة الفتاة المستهترة الضاربة بالقيم والتقاليد والأخلاق عرض الحائط، إنه يقدم الوجه الآخر للغرب، ولكن هل يسمح المجتمع الشرقي الذي يعيش فيه بامتداد وتطوير تلك العلاقات (مع الغرب) أم يقف لها بالمرصاد والرفض؟
لقد وقف المجتمع في صورة أصدقاء يحيى من هذه العلاقات موقف الرافض والمستنكر والناصح بضرورة زوالها لأنها ستضر بالجميع، فها هو ذا صديقه أحمد سيف النصر أول المطلعين على طبيعة تلك العلاقة يرفض استمرار صديقه يحيى في علاقته بسانتي، وها هو ذا رئيس تحرير المجلة التي كان يعمل فيها يحيى محررًا وكاتبًا بعد انتهاء عمله الصباحي كطبيب، ينصحه ـ بل يأمره أمرًا غيررسمي ـ بعد خروجه من السجن وبعد إصابته بالعمى ـ بضرورة إنهاء تلك العلاقة مع سانتي ولورا (مع الغرب)، ثم يفاجأ يحيى بزيارة رئيس تحرير المجلة الحالي وصديقه أحمد شوقي حاملا معه قرارًا من مجلس التحرير يأمر فيه بقطع علاقته مع "سانتي" ومنعها من الدخول إلى بيته وكذلك عدم الاتصال بها. ولكن يحيى لم يتمثل لكل هذه الأوامر والقرارات، إنه ما زال عاشقًا ولهانَ بهذا الغرب، ونفاجأ في خاتمة الرواية بالقبض على يحيى وإيداعه السجن، ومغادرة "سانتي" للبلاد، واعتقال "لورا" وإيداعها سجن الحريم.
ونتساءل هل كان اعتقال يحيى بسبب أنه لم يأبه بالقوى الاجتماعية التي عارضت علاقته مع الرمز الغربي؟ أم أن اعتقاله كان بسبب الأفكار التي يعتنقها هو وزملاؤه؟
إننا نرجح أن علاقته مع الرمز الغربي كانت هي المبرر الرئيسي لهذا الاعتقال، وإلا لما تم ترحيل "سانتي" إلى بلادها، واعتقال "لورا" رمز الفساد والانحلال الخلقي الغربي في هذه الرواية.
إننا لا نتفق مع ما ذهب إليه الناشر ـ دار الهلال بالقاهرة ـ في التعريف بهذه الرواية في قوله: "بطل الرواية هو يحيى .. شخص قريب للغاية من المؤلف، وهو نموذج للبطل الملحمي الذي لا ينفصل عن الجماعة .. البطل الملحمي الذي تتجسد فيه كل أحلام جماعته وفضائلها .. ويخوض باسمها وعلى رأسها معركة الحرية والحب".
إن يحيى لو كانت تنطبق عليه صفات البطل الملحمي الذي تتجسد فيه أحلام جماعته وفضائلها فعلا لما تهرب أو تخلص من أفراد عائلته أثناء زيارتهم له وهم قادمون من الريف لزيارة معالم القاهرة، ولما تهرب أو تخلص من مقابلة أخيه ورفض أن يبيت عنده أثناء رحلة مع الكلية إلى القاهرة. إنه شخص عادي يعيش ميعة الشباب وعنفوانه، بكل أخطائه وآماله وأحلامه في التعبير والتجديد والرفض لوضعية مجتمعه الذي كان يرزح تحت نير الاستعمار الإنجليزي أثناء أحداث وزمن تلك الرواية.
التعليقات