عندما نذكر أهم الكتاب والروائيين الذين كتبوا عن الإسكندرية في عصورها المختلفة، لا بد أن يُذكر اسم محمد جبريل (1938 – 2025) ضمن هؤلاء الكتاب.
وإذا كانت ثلاثية نجيب محفوظ (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية)، قد كتب لها الخلود في أدبنا العربي المعاصر، لأنها أرَّخت فنيًّا لأحد الأحياء الشعبية في مدينة القاهرة، فإنني أعتقد أن رباعية محمد جبريل ـ التي اتخذ من أولياء الإسكندرية في منطقة بحري عناوين لأجزائها الأربعة (أبو العباس، ياقوت العرش، البوصيري، علي تمراز) ستخلِّدُ بلا شك كاتبها.
فهذه الرباعية الروائية، أو هذا العمل الملحمي الكبير الذي يربو ـ في أجزائه الأربعة ـ على ألف صفحة، سيكون مثارا للحديث الطويل على مائدة النقد الأدبي الروائي لعقود طويلة قادمة.
وربما تعقد مقارنات وموازنات طويلة بينه وبين أعمال أخرى مهمة كتبت عن مدينة الإسكندرية، مثل رباعية الإسكندرية للكاتب الإنجليزي لورانس داريل، وثلاثية إبراهيم عبدالمجيد (لا أحد ينام في الإسكندرية، وطيور العنبر، والإسكندرية في غيمة) وثلاثية كاتب هذه السطور الماء العاشق (الماء العاشق، وثعلب ثعلب، والرحيمة). فضلا عن أعمال كتَّاب آخرين هاموا حبًّا بالإسكندرية وكتبوا كثيرا عنها من أمثال: إدوار الخراط ومصطفى نصر ومحمد الصاوي وسعيد سالم وسعيد بكر وغيرهم كثيرون.
إن "رباعية بحري" لمحمد جبريل، عملٌ ليس سهلا، ويحتاج إلى أكثر من قراءة، لأنه يجمع بين خبرات طويلة ومتعددة في الحياة وفي الأدب وفي الفن وفي الفكر، وأيضا في التصوف وفي الجنس، وأعتقد أنهما ـ أي التصوف والجنس ـ في هذه الرباعية وجهان لعملة واحدة، هي الحياة البشرية في سموها وانجذابها نحو فك الأسر ومحاولة الانطلاق خارج حدود الزمان والمكان، وهذه الحياة في انحطاطها ودناوتها وسعيها إلى إشباع الغرائز السفلية بشتى الطرق، وأحيانا يجنح الخيال بالكاتب في عالم التصوف فيقدم لنا العالم السري لشخصيات تسعى إلى الدخول في عالم المجاذيب مثل شخصية علي الراكشي، وأحيانا يسوق الكاتب قلمه لتصوير أحط أنواع الغرائز من خلال شخصية مثل شخصية أنسية، وأحيانا يقوده هذا القلم إلى التعرض لأنواع من الشذوذ الجنسي المتمثل في شخصية حمادة بك.
وعندما يتعرض الكاتب لهذين الوجهين فإنه ينقدهما أو يرفضهما، ومن أجل هذا فهو يغوص في هذين العالمين المتناقضين بطريقة إما تدعو إلى الإعجاب والدهشة، أو بطريقة تدعو إلى اللوم والمؤاخذة. وفي كلتا الحالتين يُجيد الكاتب تصويرهما وتقديمهما متوسلا بذاكرة حديدية، ومَلَكَةٍ تصويرية يحسد عليها. ولعلي أكون من أصحاب الاتجاه الأول (الإعجاب والدهشة) فقد كنت أثناء قراءة هذه الرباعية شديد الانبهار بالعالم الذي يقدمه لنا محمد جبريل بشقيه، فضلا عن الجانب الأسطوري ـ لأنه في الواقع أضاف إلى خبراتي وثقافتي ـ وبالذات في عالم التصوف الذي تحوَّل في هذه الرواية إلى عالم فني شديد الخصوبة والجمال ـ وأضاف الكثير في هذا المجال.
إن جبريل لم يكتب فقط "رباعية بحري" عن الإسكندرية، ولكنه كتب الكثير والكثير فنذكر على سبيل المثال فقط أسماء بعض أعماله: حكايات عن جزيرة فاروس، الشاطئ الآخر، نجم وحيد في الأفق، الحنين إلى بحري، عناد الأمواج، بالإضافة إلى المجموعة القصصية المتيزة "حارة اليهود". وغير ذلك من أعمال تحتاج إلى دراسات دراسات وندوات وندوات.
التعليقات