• من بين ثلاثة أفلام أنجزها المخرج قدم فيلمين تتمحور أحداثهما حول فكرة التعايش مع جثة في مكان واحد!
عقب عرض الفيلم الروائي القصير «ماما»، في الدورة الأخيرة لمهرجان القاهرة السينمائي، اتهم القاص شريف عبد المجيد مخرج الفيلم ناجي إسماعيل بأنه استولى على فكرته، مما أضاع على الفيلم، كما أشاع البعض، جائزة كان يستحقها !
بنى «شريف» اتهامه بأن أحداث فيلم «ماما» تعتمد على مأساة الفتاة الشابة «مي» (مي الغيطي)، التي تعيش وشقيقها «علي» (دانيال شريف)، في شقة متواضعة بحي الأنفوشي بالإسكندرية، واضطرتها الظروف للتعايش مع جثة أمها، بينما في قصته «الوصية»، التي كتبها على شكل مسرحية من فصل واحد ثم أعاد كتابتها في قصة قصيرة تعيش «سعاد»، التي تجاوزت الأربعين من عمرها، مع جثة أمها في شقة فقيرة، فى بيت قديم بالخليفة.غير أن القاص خفي عليه أن المخرج ناجي إسماعيل أنجزعام 2016 فيلماً قصيراً بعنوان «البنانوه» تدور أحداثه حول إثنين من عمال البناء تربط بينهما صدقة وطيدة، ولما وصلا إلى القاهرة تشاركا في دفع إيجار الغرفة الواحدة التي استقرا فيها، لكنهما اختلفا على أمور مالية، فما كان من أحدهما سوى أن قتل صديقه، ودفن جثته في نفس الغرفة، وعندما أصبح وحيداً طاردته الهلاوس والكوابيس. وهي التجربة التي قال عنها «إسماعيل» :" أنا ابن الصعيد، ومحافظة سوهاج تحديداً، ووالدي كان يعمل في المقاولات، وكانت طفولتي كلها وسط عمال البناء، وعندما قرأت أن شخصاً ارتكب جريمة قتل في لحظة تهور ودفن الجثة في غرفته التي يعيش فيها اتخذت قراراً بتحويلها إلى فيلم مبنى على فكرة الإحساس بالذنب".
أي أن المخرج ناجي إسماعيل قدم من بين ثلاثة أفلام (أم أميرة، البنانوة وماما)، فيلمين تتمحور أحداثهما حول فكرة التعايش مع جثة في مكان واحد، بكل ما في هذه الأجواء من خصوصية، وتفرد، وإثارة، ومن ثم فهو عالمه الأثير والمُحبب، الذي لا يمكن، بعد فيلمه الثاني الذي يتناول الفكرة ذاتها، بشكل آخر، أن تُحاسبه عليه، أو تتهمه بالسطو أو الاقتباس !
الإلهام الحقيقي
المفارقة الأكثر إثارة أن فيلم «ماما» مستوحي بدوره من قصة حقيقية جرت أحداثها عام 2017، في منطقة طوسون بالإسكندرية، وتكاد أحداثه تتطابق والواقعة الحقيقية بأكثر مما تتماهى مع قصة شريف عبد المجيد؛ حيث تقدم شاب، في عمر بطلة الفيلم، (16 عاماً)، وشقيقته الطالبة بكلية الآداب، ببلاغ يفيد بوفاة والدتهما منذ 3 سنوات، وأنهما تنفيذاً لرغبتها، ووصيتها، تركا جثتها في دولاب الشقة حتى تحللت، وأصبحت هيكلاً عظمياً، وأن الأم قبل وفاتها، طالبتهما بعدم الكشف عن وفاتها إلا بعد 3 سنوات.
هكذا بالضبط جاءت أحداث فيلم «ماما»؛ الذي فقد الكثير من غموضه وإثارته وتشويقه، بالتفريط في أسراره، وحرق أحداثه، ومن ثم عرفنا، مبكراً، لماذا ترتدي «مي»، وشقيقها الصغير«علي»، كمامة جلدية قبل أن تدخل شقتها، ولماذا ترقد أمها في غرفة موصدة، ولأي سبب تتولى الفتاة مهمة توصيل رسائل الحنين من شقيقها لأمها، بعد إيهامه بأن حالتها الصحية متدهورة.
ويتكشف اللغز تدريجياً بعد رفض الفتاة الرد علي هاتف عمها، الذي نستشعر أنه طامع فيها وفي إرثها، ونعلم أن أمها كانت كبيرة الممرضات في مستوصف الصيادين بالأنفوشي، وأن الفتاة تترقب، بشغف، تاريخ بعينه، نُدرك، في النهاية، أنه موعد بلوغها السن القانونية، وفي اليوم المحدد بالضبط نعرف أنها أبلغت الشرطة عن جثة أمها التي تحللت في دولاب الحجرة، وتُفرج النيابة عن «مي»، بعدما أكد الطب الشرعي عدم وجود أية شبهة جنائية، وببلوغ الفتاة سن الواحد والعشرين يُصبح من حقها، طبقاً للقانون المصري، التصرف في ممتلكات والدتها بدون وصاية، وحق رعاية شقيقها، ونراها وكأنها خرجت لتوها للحياة، وهي تسير مع شقيقها في شوارع الإسكندرية الغاصة بالبشر، وإشارات المرور.
جماليات لا يُمكن تجاهلها
أجواء التوتر التي واكبت التجربة؛ سواء على صعيد المعركة التي بدأها القاص شريف عبد المجيد، أو أحداث الفيلم نفسه، لا تعني تجاهل جماليات الفيلم، التي أظهرت حجم الموهبة التي يملكها المخرج ناجي إسماعيل؛ فالتفاصيل الجميلة كثيرة، والترجمة البصرية للجمل الدرامية بليغة؛ مثل مشهد المصباح المُضيء في الحجرة المعتمة بينما صوت الشيخ محمد رفعت يُجلجل بالآية الكريمة " مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ" (من سورة النور)، وأوراق النتيجة المبعثرة علي الحائط، والتي تحتل ركناً رئيساً من الكادر للدلالة على أهميتها، فضلاً عن التصوير والإضاءة، وتباين الظل والنور، وتوظيف البحر كمتنفس للبطلة، بينما تأتي أغنية "يا جارة الوادي"، بصوت فيروز تحديداً، وكلماتها الموحية : "طربت وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراك.. مثلت في الذكرى هواك، وفي الكرى .. والذكريات صدى السنين"، أقرب إلى المناجاة بين البطلة وجثة أمها، ثم أضفى وصول الشرطة غموضاً مُحبباً زاده جمالاً رسوخ أداء مي الغيطي، التي بدت وكأن مجيء الشرطة لا يعنيها، وهو الرسوخ الذي ميز أداؤها طوال الفيلم، بينما اتسم أداء الطفل دانيال شريف برصانة، وفهم لأبعاد الشخصية الطفولية، وهو التزام يُحسب للمخرج، الذي امتلك زمام قيادة عناصره الفنية، ووظفها ببراعة، ومن ثم أظهر كل عنصر مهارته، وأضاف الكثير للفيلم؛ كما فعل مدير التصوير مصطفى الششتاوي والمونتيرساندرو كنعان ومهندس الديكور ياسر الحسيني ومصممة الأزياء ريم العدل . أما الفنان محمد الصماد، فهو مفاجأة الفيلم، واكتشافه المثير بموسيقاه التصويرية الكثيفة، والبليغة، والموجزة، وتعبيره الهاديء بلا افتعال، وبأنسب الألات الموسيقية، عن أكثر اللحظات توتراً وإثارة.
مرة أخرى، وأخيرة، يبدو وكأن القاص شريف عبد المجيد تسرع باعلان الحرب على فيلم «ماما»، وكان الأولى به أن يُقاضي الشاب "أحمد" والفتاة "مريم"، لأنهما مصدر الإلهام الحقيقي لصناع الفيلم. أما القول بأنه لا يبحث، من وراء اتهام الفيلم بأن فكرته مسروقة، عن مطامع مادية، بل حق أدبي ومعنوي، فهو طلب يُظهر اهتزاز موقفه؛ إذ من حقه، في حال ثبوت التهمة على أصحاب الفيلم، أن يحصل على حقوقه كاملة، سواء مادية أو أدبية !
التعليقات