* مشاريع شيطانية لاستلاب الهُويَّة وتدمير الذاكرة المصرية!
* اختيار التصوير في منطقة الحسين فرض المكون الديني على "عكاشة" في سياق بحثه عن الخصوصية
منذ رحيل عاطف الطيب ونور الشريف وأسامة انور عكاشة، والاحتجاب الإختياري لبشير الديك، يمكن القول إن أفلام القضايا الكبرى اختفت من شاشة السينما المصرية، واختفى معها الجدل الذي كانت تُثيره على الساحة، حتى جاء المخرج الشاب رءوف عبد العزيز ليُعيد الروح لأفلام القضايا، باقترابه من قضية سياسية وفكرية شائكة، ووعرة، نادراً ماتناولتها السينما المصرية من قبل، وهي قضية الاستيلاب الديني والسياسي والإقتصادي .. وبالطبع الثقافي!
البحث عن هوية الطفل
محاولة لانقاذ الحالة من الفخ
هنا لابد أن نتذكر الراحل أسامة أنور عكاشة، الذي كان له الفضل في إحياء «فضيلة مهجورة»، انصرفت عنها السينما المصرية لأسباب غامضة، وأعني بها الاشتباك مع هموم الناس، والتواصل مع قضايا الواقع، وهو ما رأيناه بالفعل في فيلم «الباب الأخضر»، الذي قيل إنه كتبه منذ ثلاثين عاماً، وتدور أحداثه في «كفر المنسي» (لاحظ مغزى الاسم)، عام 1988، لكنه يقفز بعيداً عن القصص الصغيرة، التي يعيشها «كفر المنسي»، إلى المؤامرة الشيطانية الكبرى، التي تنتظر ألاف «المنسيين»، في العاصمة المصرية، على مقربة من "الباب الأخضر"، المُلاصق للمسجد الحسيني، من جهة الضريح، وقيل إن رأس الحسين دخلت منه ملفوفة بحرير أخضر، مُعطر بالمسك والعنبر ، فضلاً عن اللون الأخضر الذي طُلي به الباب الخشبي. ومن هنا جاءت تسمية الفيلم، الذي يُجدد فيه "عكاشة" التزامه المُطلق بقضية الهُويَّة والخصوصية المصرية، وإن كان لم يتغافل، في سياق بحثه المثالي عن الهوية المصرية الواحدة، عن المكون الديني، الذي فرضه المكان (منطقة الحسين التي تموج بعوالم متباينة من الذاكرين، والهائمين، والصوفيين، والمشردين والباعة الجائلين، الذين امتهنوا تجارة المصاحف جنباً إلى جنب مع كتب السحر والشعوذة، إلى باعة العطور الشعبية والحلوى الشعبية، وصولاً إلى بائعي لحظات الفرفشة، والترويح عن النفس بالعزف على العود والغناء)، وهي المشاهد، التي نجح المخرج ومدير التصوير رءوف عبد العزيز في رصدها، وكأنه يصنع فيلماً تسجيلياً.
الخيانة لها جذور
عيشة .. الضحية البريئة
المصل الشيطاني
نقطة أخرى جوهرية غاية في الأهمية استرعت انتباهي في فيلم "الباب الأخضر"، كونها المرة الأولى تقريباً التي يمزج فيها "عكاشة" بين قضية الهوية وقضية علمية ذات خصوصية؛ عندما يوقع بالفتاة الشابة «عيشه» (سهر الصايغ)، التي جاءت تبحث عن هوية طفلها، وانتزاع شهادة ميلاده، وكذلك اعتراف ابيه «محمود» (محمود عبد المغني)، المناضل السياسي، الذي انقلب على تاريخه الوطني، في براثن مافيا، يُديرها في مصر (حمزة العيلي)، خططت، بالتعاون مع وكالة أمريكية، لحقن المصريين بمصل يستلب ذاكرتهم، ويُفقدهم هويتهم، وينزع عنهم إرادتهم، ويُدمر مشاعرهم، وهو المخطط الشيطاني الذي يواجهه «شفيع» (إياد نصار)، الذي نكلوه به وطردوه من وظيفته كأستاذ بكلية الطب، وكادت الفلاحة البريئة تروح ضحية له، لكنه لم يفقد إيمانه، لحظة، بأن المخطط لن يمر، لأن نجاحه يترجم المعنى الحقيقي للاستلاب، الذي عرفه "هيجل" بأنه "فقدان الإنسان وجوده الجوهري ، وتشويه قدراته الكامنة"، أو حسبما قال ماركس : "أن تكون العضو الوهمي في الدولة الوهمية"!
المأساة والخوف يُدمراها
عقد الزواج العرفي بين أيد أمينة
ربما بدا مصطلح الاستلاب غامضاً، والافضل علي سبيل التبسيط أن نسميه "الاستغلال"، وهو بالضبط ما أراده "عكاشة"، وعبر عنه المخرج رءوف عبد العزيز في فيلمه؛ حيث يتحول الإنسان، بفعل المصل الشيطاني، إلى كائن غريب حتى على نفسه (جرعة واحدة دفعت الفلاحة للتبرؤ من طفلها)، وهو المصير الذي ينتظر مئات المصريين بعدهاعندما يتم تدمير ذاكرتهم، وتجفيف مشاعرهم، والأهم تغيير، وتحديد، طرائق تفكيرهم . وهو الخطر الذي يرى الفيلم أنه ما زال قائماً، ويتهددنا، بقوة، ومن أجل هذا يختتم الأحداث بجملة كُتبت على الشاشة : «ولازلنا في انتظار شهادة الميلاد؛ فلكي يعيش الإنسان لا بد أن يكون له اسم.. هوية فإلى متى ننتظر عند .. الباب الأخضر». وإن كنت لا أرى أن المخرج مُحق في إنهاء فيلم بهذه الرسالة، وكان ينبغي عليه أن يُدرك أنه يتعامل مع جمهور فطن، وفي غير حاجة إلى من يُلقنه.
المافيا الأمريكية وراء المصل الشيطاني
جرعة واحدة أفقدتها إرادتها
ثمن الخيانة
بالنظر إلى حقيقة أن القصة كُتبت منذ 30 عاماً، يمكن تبرير المشهد الذي يُطالع فيه المناضل السياسي كتاب جمال حمدان : «6 آكتوبر في الاستراتيجية العالمية»، وصور حسني مبارك التي تظهر في الخلفية، في ظل الملاحقات الأمنية للمعارضة السياسية، واعتقال من يرفض أن يبيع أو يخون، كما فعل «جلال منصور» (عابد عنانى)، بينما يصبح منصب رئيس التحرير محفوظاً للانتهازيين والوصوليين، كما فعل «أحمد أبو اليزيد / محمود الأنصاري» (محمود عبد المُغني). لكن شيء لم يخصم من احساس المُشاهد بأنه أمام فيلم له طابعه الخاص، صادق، هاديء النبرة، مصنوع باتقان ( باستثناء مشهد اقتحام القسم الخصوصي)، وأبرز ما فيه الأداء التمثيلي الرائع للجميع من دون استثناء، وهو ما يُحسب للمخرج الشاب، الذي قدم أبطاله في أفضل حالاتهم ، ربما لأنه عرفهم، واختبرهم، في «الطاووس» و«إنحراف».
أيام البراءة
التعليقات