قدم رسائل إنسانية وفلسفية، وتبنى الدعوة إلى الحب والتسامح ونبذ الكراهية بلا خطابة
.. وكأنه يتحدى نفسه؛ فمن فيلم إلى آخر يُحقق المخرج العربي السوري عبد اللطيف عبد الحميد نقلة فنية ونوعية، بل أنه يُجود، ويبتكر، ويُضيف لنفسه، ولأسلوبه، الجديد، والمُثير، الذي يجعلك تقف مبهوراً أمامه، وهو ما تُجسده، بشكل ملحوظ، تجربته الأخيرة في الفيلم الذي اختار له عنوان «الطريق»، وأهداه «إلى روح رفيقة عمره لاريسا عبد الحميد».
ليس هروباً من رصد الواقع الراهن في سورية، وإنما هي الرغبة في التأكيد على ما كانت تتمتع به سورية العريقة من قيم أخلاقية، وإنسانية، وحضارية، يبدو أنها كانت المُستهدفة من المؤامرة التي حيكت ضدها، تدور أحداث الفيلم، الذي كتبه عبد اللطيف عبد الحميد، بالتعاون مع الشاعر السوري عادل محمود، في ثمانينيات القرن الماضي، وتحديداً في ريف مدينة طرطوس السورية؛ حيث المراهق الشاب «صالح» (غيث ضاهر)، الذي ماتت أمه، وتزوج والده «يونس» (ماجد عيسى)، من امرأة عانى كثيراً من قسوتها، ومن ثم آثر العيش مع جده لوالده «صالح» (موفق الأحمد)، الذي استقر، بعد تقاعده من عمله كأستاذ في جامعة دمشق، في قريته المتاخمة لطرطوس، لكنه يُفاجأ، ذات يوم، بحفيده، وهو يحمل رسالة من مدير مدرسة «الفارابي» (الفيلسوف الشهير، الذي يُعد واحداً من أهم الشخصيات الإسلامية التي برعت في مجالات : الطب، الفيزياء، الفلسفة والموسيقى)، واختيار اسم المدرسة سيظهر مغزاه مع مجريات الأحداث؛ فالرسالة تتضمن ما يُشبه حكماً بالإعدام على الصبي (13 عاماً)؛ بوصفه فاشلاً، وليس له مكاناً في المدرسة، وبدلاً من أن يُعنف الجد الحفيد، ويُعاقبه، يفعل مثلما فعلت أم توماس إديسون، الذي جاءت سيرته بإيجاز، وتكثيف، مُحترماً فطنة المتفرج، تاركاً مهمة التقصي في مراجع أخرى، التي اتهم المعلمون ابنها بالفشل، والبلادة والجنون، وطردوه، لكنها آمنت به، ووثقت في قدراته، وأخفت عنه خطاب طرده، وأبلغته أن ذكاءه فوق قدرات المدرسة، واحتمالات زملائه، وأنها ستتولى تعليمه في المنزل، إلى أن صار سابق عصره، وهو ما فعله، بالضبط، الجد، الذي آمن أن حكم مدير المدرسة جائر ومتسرع، وخبأ الرسالة عن حفيده، بعد ما أخبره أنه يتمتع بذكاء وعبقرية لا يُحتملان !
رسائل إنسانية وفلسفية
أول ما يسترعي الانتباه، في سيناريو «الطريق» أنه عالج قضيته، التي لا تخلو من رسائل إنسانية وفلسفية، ودعوة إلى الحب والتسامح ونبذ الكراهية والتحلي بالحكمة، عبر دراما هادئة، وخطاب سلس، وبساطة هي سمة الفيلم؛ فالجد ينصح حفيده بأن يتفرغ لرصد «الطريق»، وحركة الحياة في الضيعة، كبداية لاكتشاف الذات، وإدراك ما يجري على أرض الواقع، فضلاً عن تصويب الأفكار والمفاهيم، وتصحيح اللغة، والقواعد، بلغة سينمائية جمالية، وأسلوب يحمل تواضع المُبدع، ولا يخلو من سخرية مُحببة؛ ففي طزاجة سينمائية أخاذة يُبهرك المخرج عبد اللطيف عبد الحميد بميزانسين يستعرض فيه الشخصيات، وعلاقتها بالمكان، بشكل يبدو للوهلة الأولى، وكأنه موصوم بالتكرارلكن المتأمل في مفردات الصورة، وطريقة بناء وتصميم المشهد، يُدرك حجم العبقرية، والشاعرية، في إبداعه حتى أنك كمتابع تفتقد ما يوصم بأنه تكرار، وتنتظره؛ بعدما اتسم الأسلوب وتكوين المشهد بشاعرية، ودقة فنية، سواء بالنسبة للغة الحوار التي تتسم بالكثافة، وتكرار لغة الحوار، وحركة الممثلين أو حركة الكاميرا.
نجحت مهمة الجد، في انتشال الحفيد من غياهب الظلم، والظلام، وأعاد له الثقة في نفسه، فتخرج الحفيد، بعد انتهاء فصوله الدراسية المنزلية، واكتمال بعثته الدراسية في أوروبا، وصار طبيب أعصاب، ليُصبح جديراً بكونه سليل «الفارابي»، وإن كان طريد مدرسته، ويحتفل به أهل ضيعته، وتتعدد النهايات السعيدة في «الطريق» بشكل لا يُطاق، في الوقت الذي أهمل فيه تعميق الإشارة إلى «الصرصور» وأمريكا، وكان بمقدوره أن يكتفي بدروسه الرائعة؛ مثل : تثمين الشغف المعرفي، والتفاصيل الإنسانية الكثيرة الدافئة، وانحيازه لبسطاء من البشريحملون ما فوق طاقتهم من هموم تنوء بحملها الجبال، ورغم هذا مازالوا يواجهون الحياة، ويبتسموا لها؛ مثل : «أم جميل» (تماضر غانم)، أم الحفيد صالح بالرضاعة، والطرافة منقطعة النظير في «إفيه» عودة المقاتلين، بزعامة كبيرهم (محمد شما)، وهم مثخني الجراح، وكذلك الرجل الذي يُعاني من البواسير(مأمون الخطيب)، والمناظرات الشعرية الرائعة بين الجد والشاعر (أحمد كنعان)، وتوجيه التحية للشاعر سعيد عقل والشاعر الدبلوماسي عمر ابو ريشة، ونظرة التفاؤل التي يُشيعها الفيلم في كل أرجائه؛ خصوصاً علاقة الحفيد «صالح» و«إلهام» (رند عباس في الطفولة وراما الزين في الشباب). ولا يتبقى سوى التنويه بالموسيقى الشرقية الأصيلة (لم تخرج عن القانون والعود) للموسيقار المُرهف خالد رزق . والإشادة بقدرات، وسلاسة أداء، وموهبة، الممثل القديرموفق الأحمد، الذي أدى دور«الجد صالح»، واستحق عنه تقدير لجنة تحكيم أيام قرطاج السينمائية ال 33.
روح التجلي
منذ الوهلة الأولى التي تتابع فيها مشاهد فيلم «الطريق» تكاد تستشعر أن قبساً من التجلي سيطر على المخرج عبد اللطيف عبد الحميد، وكأنه صوفي انكشفت أمامه أنوار الغيوب؛ ففي سخريته مذاق خاص، وفي بساطته سحر وسلاسة وتفرد، وقدرته على توصيل الفكرة لا تُبارى، بينما يُمرر رسائله، غاية في الأهمية، من دون خطابة أو مباشرة أو صراخ وزعيق، وكلها إذا نظرنا إليها، وتأملناها، سمة في شخصيته الإنسانية.
التعليقات