* «مطبخ الرئاسة» عنده كان وسيلة لتعرية، وفضح، ما يحدث في «مطبخ السياسة»، ومع «الأسطى» اختار «تفكيك مدينة» اسمها القاهرة
في لفتة تعكس بحثها عن كل ماهو جديد وغير مألوف في قوائم المبدعين الأولى بالتكريم، وقع اختيار إدارة مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط، برئاسة الكاتب الامير أباظة. على المخرج سعيد حامد لتكريمه في الدورة 38 (5-10 اكتوبر 2022). فمن هو سعيد حامد؟ عام 1991 التقطت عيناي مساعد مخرج متدفق الحيوية والحماسة، دقيق بشكل كبير، وموضع ثقة بالدرجة التي دفعت المخرج شريف عرفة لأن يلقي عليه العبء الأكبر في إدارة "دولاب العمل"، في فيلم "سمع هس"، وكان جديراً بتحمل المسئولية، ومحلاً للثقة، بل كان "دينامو" العمل بمعنى الكلمة، غير أنه لم يكن يأبه بالصحافة، التي كانت تولي اعتباراً كبيراً لأفلام الثنائي، وقتها، شريف عرفة / ماهر عواد، حتى خيل لنا أن سعيد حامد هو الضلع الثالث في التجربة، التي كانت ملء الأسماع والأبصار، وحاولنا، كصحفيين، الاقتراب من هذا الشاب، الذي عرفت أنه سوداني الجنسية، لكنه كان متجهم الوجه، صارم، ترتسم الجدية على ملامحه، لا يعرف غير العمل. وبعد فترة غير قصيرة، من ترددي على "البلاتوهات"، التي تشهد تصوير الأفلام نشأت بيننا (أنا وحامد) علاقة وطيدة؛ ربما لأننا نعشق الجدية، وتنطق ملامحنا بالتجهم والصرامة.
سعيد حامد
وقتها علمت أنه خريج المعهد العالي للسينما (قسم المونتاج) عام 1982، وأنه بدأ العمل عام 1983 كمساعد للمخرج فاضل صالح في فيلم "البرنس" (في هذا الفيلم حصل على أول أجر في حياته وكان 35 جنيهاً عن أسبوع عمل)، ثم انتقل للعمل مع عدد كبير من المخرجين؛ مثل : عاطف سالم، عاطف الطيب، محمد خان، سمير سيف وشريف عرفة، في أفلام : "الراقصة والسياسي"، "اللعب مع الكبار"، "المولد"، "أحلام هند وكاميليا" و"خرج ولم يعد".. وغيرها. وعام 1992 اتخذ قراره بالتحول إلى الإخراج، بعد أن عمل كمساعد مخرج قرابة العشر سنوات، فأنجز فيلمه الفانتازي «الحب في الثلاجة»، الذي عُرض مطلع يناير 1993، وبرهن، بشكل جلي، كيف يفكر سعيد حامد، وما شكل السينما التي يريد أن يقدمها؛ سواء في اختياره أن يكون فيلمه الأول "فانتازيا" عن سيناريو للمُجدد، المُبتكر .. والموهوب ماهر عواد، أو اختياره السباحة ضد تيار السينما المصرية التقليدية (في نفس العام عُرضت أفلام : "لهيب الإنتقام"، "تحقيق مع مواطنة"، "وزير في الجبس"، "غبي على الزيرو" و"كروانة"). وهنا لابد أن أنوه بشجاعة المنتج حسين القلا (الشركة العالمية للتليفزيون والسينما)، الذي دعم، ومول التجربة، مع "حامد" نفسه، الذي اختار للبطولة، في تأكيد جديد لروح المغامرة، يحيى الفخراني ولوسي مع عبلة كامل وأنعام سالوسة. لكن الفيلم لم يحقق الصدى المطلوب؛ لتشبع الجمهور بسينما ("كروانة" و"غبي على الزيرو") وربما بسبب حرب تكسير العظام، التي واجهت التجربة الفريدة، من مافيا المنتجين والموزعين، الذين ادركوا ان نجاح "الحب في الثلاجة" سيُغير مقاييس السوق من ناحية، وذائقة الجمهور من الناحية الأهم.
سعيد أثناء التصوير خارج مصر
«صعيدي» يأخذ بيده !
نجحت "المافيا" في إحباط "حامد" لكنهم لم يثنوه عن مواصلة طريقه نحو تقديم السينما التي يريدها؛ فعلى الرغم من فوز الفيلم بالجائزة الثالثة (٥٠ ألف جنيه) من المهرجان القومى الثالث للأفلام الروائية المصرية، عام 1993، ظل "حامد" من دون عمل زهاء الخمس سنوات، إلى أن عرض عليه الكاتب مدحت العدل، عام 1998، إخراج فيلم «صعيدي في الجامعة الأمريكية»، بطولة محمد هنيدي، وكانا قد تعاونا معاً في فيلم «الحب في الثلاجة»، وفوازير «أبيض وأسود» (1996)، التي حققت نجاحاً كبيراً دفع الشركة المنتجة لإنتاج جزء ثان عام 1998، وبالتالي رحب "هنيدي" و"حامد" بالعرض، وبعكس ما حدث عند عرض فيلم «الحب في الثلاجة»، الذي يقول عنه "حامد" :"لم يحضر أحد" (!)، ولم تزد نُسخ عرضه عن 6 نسخ عُرضت في 6 صالات، وتم رفعها بعد أسبوعين بالكاد، زاد الطلب على «صعيدي في الجامعة الأمريكية»، عقب الإقبال الجماهيري غير المتوقع على مشاهدته، وبلغ عدد النسخ، التي خرجت من المعمل 60 نسخة، ليحقق الفيلم أعلى إيراد في السينما المصرية، ويقلب، وهذا هو الأهم، مقاييس صناعة السينما المصرية؛ سواء على صعيد استجلاب جمهور جديد، غالبيته من جيل الشباب الذي كان قد انصرف عن مشاهدة أفلام السينما المصرية، أو جمهور الكبار، الذي دبت قطيعة بينه وارتياد صالات العرض، لأسباب يطول شرحها.
من فيلم صعيدي في الجامعة الامريكية
غير أن أهم تداعيات "النجاح الأسطوري" لفيلم «صعيدي في الجامعة الأمريكية» تمثل في عودة الاستثمار في مجال صناعة السينما، بعد ما اكتشف رجال الأعمال أنها يُمكن أن تُصبح «الدجاجة التي تبيض ذهباً» .ومن المهم هنا الإشارة إلى أن الدرس القاسي، الذي سببه فشل فيلم «الحب في الثلاجة»، رغم ما حققه من مكاسب معنوية وأدبية، على رأسها الاحتفاء بالفيلم، ومخرجه، في مهرجانات عالمية عدة؛ على رأسها روتردام للفيلم العربي، وبينالي السينما العربية في باريس، كان له الفضل الأكبر في تعلم المخرج سعيد حامد من أخطائه، وعلى رأسها الاهتمام بالصوت، الذي كان بمثابة مُعضلة في صناعة السينما المصرية، وفِي فيلم «الحب في الثلاجة» بالتبعية، كما اتسمت تجربة فيلم «صعيدي في الجامعة الأمريكية» بإيجابيات عدة؛ على رأسها تغيير شكل الصناعة، وضخ دماء جديدة في شرايينها؛ مثل : أحمد السقا، منى زكي، غادة عادل، هاني رمزي، فتحي عبد الوهاب وطارق لطفي، ممن دشنوا ما يُعرف باسم "الموجة الجديدة من نجوم السينما المصرية". وكما هي عادة السينما المصرية عمدت الشركة المنتجة لفيلم «صعيدي في الجامعة الأمريكية» (العدل جروب) إلى استثمار النجاح في فيلم «همام في أمستردام» (1999)، لنفس الكاتب (مدحت العدل)، ونفس المخرج (سعيد حامد)، ورغم نجاح الفيلم إلا أنه لم يبلغ النجاح الذي حققه «صعيدي»، لتتجدد المحاولة من جانب الشركة نفسها، والكاتب ذاته، والمخرج أيضاً، في العام التالي (2000)، عبر فيلم «شورت وفانلة وكاب»، الذي يُحسب لمخرجه انقلابه على ما أصطلح على تسميته "سينما المضحكين الجدد"؛ إذ قدم فيلماً مُغايراً، يجمع بين الرومانسية والكوميديا، ولا يخلو من الحركة، وكما قدم أحمد السقا، كبطل ونجم، وأعاد تسليط الضوء على شريف منير، كان له فضل اكتشاف موهبة اللبنانية "نور"، وتقديمها في أول بطولة مطلقة، فضلاً عن اكتشاف قدرات أحمد عيد كممثل كوميدي بالفطرة.
من فيلم طباخ الريس
.. ودارت العجلة !
هكذا ابتسمت الدنيا للشاب، الذي جاء من الخرطوم، وهو في التاسعة عشرة من عمره، قاصدا المعهد العالي للسينما في مصر، عام 1978، وهو لا يملك في جيبه سوى مائة دولار (77 جنيهاً مصرياً وقتها)، وبدأ من الصفر، لكن طموحه، وتشبثه بحلمه أن يأتي عليه اليوم الذي يُخرج فيه فيلماً مصرياً، ملك عليه كل حواسه، وكان دافعه ليحسم أمره، وقراره، ويرفض، بإصرار يُحسد عليه، العرض المُغري بالتعيين في تليفزيون جدة، بالمملكة العربية السعودية، نظير راتب شهري بلغ وقتها 6 ألاف ريال سعودي، بالإضافة إلى شقة وسيارة، وبمضي الأيام، والأعوام، لم يكتف بإنجاز فيلماً مصرياً واحداً ، بل صار يُخرج فيلماً كل عام، وبعدما كان يعمل مع شركة "العدل جروب" فقط، وكأنهما وقعا معا "عقد احتكار"، انهالت عليه العروض من جانب أكثر من شركة إنتاج؛ فمع مجيء عام 2001 أنجز فيلم «جاءنا البيان التالي»، لحساب الشركة العربية للإنتاج والتوزيع السينمائي، وفِي نفس العام أنتجت له شركة "جراند آرت" فيلم «رشة جريئة»، الذي عاد فيه للتعاون مع الموهوب ماهر عوّاد. وفِي حين قام «هنيدي» ببطولة «البيان»، ذهبت «الرشة» إلى أشرف عبد الباقي، الذي كون "دويتو" رائعاً مع ياسمين عبد العزيز، التي يمكن القول إن "حامد" هو من أطلقها، ووظف موهبتها بالشكل الصحيح، وهي المزية التي يمتلكها "حامد" بشكل ملحوظ؛ فقد فعلها مع جيل «صعيدي»، ومع أيمن الشيوي وموناليزا في «همام»، واللبنانية "نور" وشريف منير في «شورت» . ومن هنا لم نستغرب، أو نندهش، عندما نجح سعيد حامد في الجمع بين محمد هنيدي وأشرف عبد الباقي في فيلم «صاحب صاحبه» (2002)، تأليف ماهر عوّاد، وربما لم يُحقق الفيلم النجاح الجماهيري الذي كان متوقعاً له، لكن الأمر المؤكد أن جرعته الإنسانية، كانت محل تقدير وإشادة، تماماً مثل "الإفيهات"، و"الكاراكترات"، التي اتسمت بالطرافة، وارتبط بها رجل الشارع سريعاً؛ كشخصية «أنون»، التي جسدها هشام جمعة ببراعة، وشخصية «أم فراس»، التي جسدها محمد هنيدي، وشخصية مغني السطوح، الذي وضع المُخضرم متولي علوان بصمته عليها.
من فيلم الحب في التلاجة
سينما تنبض بالصدق والدفء
أزعم أنني شاهدت كل أفلام سعيد حامد، بما في ذلك تجاربه، التي رأى البعض أنها "خفيفة" أو مجرد تسلية؛ مثل : «أوعى وشك» (2003)، تأليف مدحت العدل و«حمادة يلعب» (2005)، تأليف مجدي الكُدش، بينما أرى أنها نأت بنفسها، تماماً، عن الترخص والإسفاف أو الابتذال، وقدمت أنموذجاً مُحترماً للكوميديا الراقية، وخفة الظل المحسوبة، وهو ما لم يتوافر – في رأيي - في فيلم «يا أنا يا خالتي» (2005)، الذي اتسم بشيء من الغلظة، في بعض مواقفه، والمبالغة في أداء عدد من أبطاله، وتكرر الأمر، تقريباً، في فيلم «عودة الندلة» (2006)، الذي شهد أول تعاون بين "حامد" و"آل السبكي"، لكن سرعان ما استعاد "حامد" توازنه، وفاجأ الجميع، في عام 2008، بفيلمي «طباخ الريّس» (إنتاج شركة "الباتروس") و«على جنب يا أسطى» (إنتاج كرار حبيب الله وسعيد حامد)؛ ففي «الطباخ»، الذي كتبه يوسف معاطي، اتخذ «مطبخ الرئاسة» وسيلة لتعرية، وفضح، ما يحدث في «مطبخ السياسة»، وكيف يتم عزل الحاكم عن المحكوم. ومع «الأسطى»، الذي كتبه عبد الرحيم كمال، بدت رحلة السائق الشاب "صلاح"(أشرف عبد الباقي) أقرب إلى «تفكيك مدينة» اسمها القاهرة؛ بحياتها الاجتماعية والسياسيةوالاقتصادية، وحلوها ومُرها، وتناقضاتها وهمومها، ولعل أهم ملمح في الفيلم هو الصدق، والدفء، وعشق الوطن، بما يجعلك تحبه (الوطن)، مهما كانت قسوته، وتقع في غرامه (الفيلم)، بحواديته الشيقة، وليله الساحر، وتوظيف أبطاله : أشرف عبد الباقي، روجينا وخيرية أحمد وضيوف الشرف (سمير غانم، محمود الجندي، أحمد السقا، أحمد رزق، ماجد الكدواني، علاء مرسي، آسر ياسين والكويتي داوود حسين)، الذين جاءوا لمجاملة المخرج سعيد حامد (شريك في إنتاج الفيلم)، لكنهم شكلوا إضافة كبيرة، وصبغوا الفيلم بمذاق خاص.
مع هنيدي في كواليس يا انا يا خالتي
قراءة سيرة، ومسيرة، المخرج سعيد حامد تضع أيدينا على أهم ملامح تجربته، وأعني به «الصدق الإنساني»، والتفاني في العمل بشكل ملحوظ، مع إصراره الواضح على بلوغ حلمه، حتى لو بدا مستحيلاً.
مساعد للمخرج الكبير عاطف سالم
التعليقات