عندما وضع العالم يده على "الاختراع الأدبي"، المُسمى ب "اعترافات جان جاك روسو"، التي حملت بوحاً أو فضحا للعائلة، أثارت الكثير من الجدل، حتى أنها غيرت حال السيرة الذاتية، التي بدا وكأنها اكتسبت شرعية جديدة، ومع توالي كتب الاعترافات، التي تسبب في رفع دعاوى قضائية ضد المؤلف؛ كما حدث مع الكاتب المغربي محمد شكري في روايته أو مذكراته "الخبز الحافي"، بعد طبعها بالعربية عام 1982، وساد إجماع على منعها فى المغرب، وعدد من الدول العربية، لكنها كانت بمثابة اعتراف بالمكانة التي صارت تحتلها السيرة الذاتية الروائية، أو بالأحرى ما يُطلق عليه "أدب البوح"، أو "الاعتراف".
لكن المثير للدهشة أن الحديث عن كتب الاعترافات، انصب على "اعترافات روسو"، التي فضح فيها عشقه للسرقة، وتعرضه، وهو صغير، لتحرش جنسي من رجال الدين، وتحرشاته شخصياً بالفتيات والتلصص عليهن، ومذكرات "الخبز الحافي"، وبلغت الإثارة مداها مع ظهور السيرة الذاتية «أوراق العمر.. سنوات التكوين»، للكاتب الكبير والناقد الأدبي والباحث والمترجم د. لويس عوض، التي وصفت بأنها الأجرأ فى أدب الاعتراف العربى؛ بعد ما أعطى مساحة كبيرة للبوح، كانت سبباً في مصادرة النسخ الأخيرة منها عقب وفاة لويس عوض عام 1990، بل أن شقيقه الناقد الأدبي رمسيس عوض، وصفها بأنها "فضائح العمر".
البوح الممنوع !
هكذا صارت «أوراق العمر.. سنوات التكوين» بمثابة أنموذج لأدب الاعتراف والبوح في الأدب المصري، قبل أن يفجر الناقد والباحث والمؤرخ الراحل منير محمد إبراهيم، قنبلة مدوية بعد قيامه بنشر "مذكرات اسماعيل ياسين"، التي نشرتها مجلة "الجيل الجديد"، عبر 11 حلقة ( من العدد 96 الصادر في 1953/10/26حتى العدد 106 الصادر في 4/ 1954/1)، التي بدت وكأنها قصة حياته، التي يُخاطب فيها ابنه "إسماعيل"، واستهلها بقوله :"أقدم قصة حياتي من غير ماكياج، من غير رتوش، بسوادها وبياضها، مع حلوها ومرها". وفِي موضع آخر يقول :"عندما تكبر يا ولدي ستسمع الكثير عن أبيك، وستسمع الجميل والقبيح، وكذلك الصدق والكذب، لكن أحداً غيري لن يروي لك القصة على حقيقتها".
اعترف اسماعيل ياسين بكل شيء؛ سواء نشأته في عائلة ميسورة تدهور بها الحال، بعد ما كان الاب "صائغ"، أصبح عبداً لشهواته، كما أنفق ماله على النساء والخمر، والهيروين، وتسبب بعلاقاته النسائية المتعددة في إصابة زوجته - أم إسماعيل - بالقلب في فترة لم يكن فيها المرض مشاعاً، ولما ماتت بالسكتة لم يتردد الاب في تسليم الطفل لوالدة زوجته، التي رأته سبباً في وفاة ابنتها، فما كان منها سوى أن انتقمت منه في صورة الطفل، الذي حسم أمره وترك السويس، مسقط رأسه، الى القاهرة، بعد ان استولى على ستة جنيهات من "تحويشة" جدته.
هنا لابد أن نتوقف، أيضاً، عند اتهام إسماعيل ياسين لوالده بأنه كان يصك النقود المزيفة القرشين الفضة (الشلن)، ثم يعطيها له ليصرفها في السوق. ولم يترك بنات خاله، اللائي اتهمهن بخذلانه، وقلة الأصل، ولم يُنكر أنه قامر على كل مايملك من مال، وكذلك خاتمه الدهبي الثمين.
أبداً لم يحاول إسماعيل في لحظة أن يقدم نفسه في صورة الملاك، أو البشر المُنزه عن الخطأ، بل تحدث، بجرأة، عن تسلله ليلاً لينام في المساجد، وكيف اتهم بسرقة أطقم شاي الجوامع، وطرده، وتصدق شيخ وقور عليه بشرط ان يعود الى مسقط رأسه، وحضن أبيه . وبنفس الصدق تحدث عن رحلته مع المونولوج وفرق : بديعة ونور الهدى وببا وفتحية محمود وأمين عطا الله وزكي ضاهر ويوسف عز الدين، الذي كان يمنحه 15 قرش كان في أمس الحاجة إليها، لكنه عندما تعرض للسقوط على خشبة المسرح قال بغضب :" ينعل ابوك (يقصد يوسف عز الدين) لأبو التمثيل" وتعرض للطرد فوراً، وهو الامر الذي تكرر مع فرقة حورية محمد، فإلى جانب الاعتراف ومساحة البوح التي جاءت عليها مذكرات اسماعيل ياسين بدت أقرب إلى توثيق أحداث تلك الفترة من احتلال إنجليزي، وإلغاء المحطات الإذاعية الأهلية، وأصحاب الفرق المسرحية والغنائية وأشهر فناني المونولوج؛ ممن جاءت المذكرات تخليداً لهم، واعترافاً بدورهم .
التعليقات