• في حال كنت سيء النية ونسجت فيلماً من وحي خيالك المريض ستنهار توقعاتك فالمخرجة تأخذك برفقة فتاة تحدت المجتمع، والأسرة، والحصار، وتبادلت الأدوار مع من نصَبهم المجتمع أوصياء
يوم أن شاهدنا تجربتها الأولى في فيلمها الوثائقي الطويل «هدية من الماضي» كان من السهل علينا ان نتحسس روح المغامرة والجنون والتمرد، التي تُميز شخصيتها، وجاء فيلمها الروائي القصير "صاحبتي" ليضع أيدينا على الموهبة التي تمتلكها المخرجة الشابة كوثر يونس، والأهم من هذا جرأتها التي دفعت- في رأيي- لجنة تحكيم الدورة ال 44لمهرجان القاهرة السينمائي، إلى منح «صاحبتي» جائزتها الخاصة.
في «هدية من الماضي» فاجأتنا "يونس" بطزاجة فيلمها، على صعيدي الشكل الفني والفكرة؛ عندما انطلقت من فكرةغير مسبوقة عن الفتاة التي احتفلت بميلاد والدها الخامس والسبعين بطريقة مبتكرة؛ فما كان منها سوى أن تذكرت حبه القديم الذي ارتبط به أثناء دراسته في روما، وابتاعت تذكرتي سفر إلى إيطاليا، وهناك راحت تبحث عن فتاته "باتريشيا"، التي خذلها يوماً، وتخلى عنها !
التمرد في دمها
فكرة مجنونة تعكس روح التمرد على السائد، والمألوف، أضافت إليها المخرجة الواعدة، بعد تجارب قليلة، تشعروكأنها تمهيد للخطوة الأكبرممثلة في فيلم «صاحبتي»، ما يمكن تسميته "جرأة الصدمة"؛ فالفيلم الذي كتبته مع أحمد عصام السيد، انتقت عناصره بعناية، وبشكل يُدهشك، ويصدمك، ليس فقط لأنه يحمل روح التمرد، ويُندد بالمجتمع الذكوري، والتقاليد الجامدة التي تُكبل الأنثى، وتفرض قيوداً على حريتها، بوصفها قاصر، وإنما لأن جرأته تكاد تجعل الأمر يلتبس عليك؛ ففي بداية الفيلم يُخيل إليك أنك بصدد علاقة غير مألوفة بين الفتاتين «سارة» (إلهام صفي الدين)، بشعرها القصير، ومظهرها الذي يُقربها من الرجال، و«عالية»، بشعرها الطويل، وماكياجها الصارخ، ونظارتها الطبية، ومظهرها الأنثوي، كما يهيأ إليك أنك بصدد علاقة حميمية تتأكد مع العناق الحميم بينهما فور دخول «عالية» حجرة نوم «سارة»، لكن سرعان ما تباغتك المخرجة بأن «عالية» ليست سوى «علي» (مارك حجار)، صديق «سارة»، الذي جاء إلى منزلها، في وجود أسرتها، مُرتدياً ملابس نسائية، لينعم معها ببعض الوقت!
هنا تنهار توقعاتك، في حال كنت سيء النية، ونسجت فيلماً من وحي خيالك المريض؛ فالمخرجة تأخذك بعيداً لتنعم بعض الوقت مع فتاة تحدت المجتمع، والأسرة، والحصار، وتبادلت الأدوار مع من نصَبهم المجتمع أوصياء على نسائه فأظهرت هشاشة مواقفهم، وخواء شخصياتهم، وخواء أفكارهم؛ ففي غرفة نومها، أي في عقر دارها، تبدو مالكة لزمام نفسها، وأمرها، بل وقادرة على السيطرة على فتاها؛ فتضع على وجهه المزيد من المساحيق، وتُطالبه بألا يرفع صوته، وأن يُدخن في حمام الشقة ليجد نفسه مسجوناً فيه كالفأر قرابة الساعتين، وكأي "عنتيل" يُطيعها صاغراً، ذَلِيلاً، رَاضِياً بِالذُّلِّ وَإهانة رجولته، وفي ظنه أنه يستدرجها، حتى ينال بُغيته، وعندما يستفيق لنفسه، وينفض عن نفسه نار الرغبة، التي سيطرت عليه، يستشعر الغضب، وينهرها، ويبدو وكأنه آسف على رجولته التي أهدرت، وهو الشعورالذي استمربعد لقاء الصدفة مع والد «سارة» (فاضل الجارحي)، ودفعه للتفكيركثيراً في مراجعة نفسه، وغادر منزل «سارة»، رافضاً انتظارها، ثم مصعد عمارتها، وهو في حيرة من أمره !
مغزول برقة
سيناريو، بل فيلم بأكمله، مغزول برقة شديدة، وأحاسيس مُرهفة، ورغم ما يتبناه من رسائل، وأفكار، ربما تبدو مناهضة للرجل، الذي بدا ضحية عكس المعتاد في الأعمال الدرامية، إلا أن الفيلم لم يجنح، لحظة، إلى الخطابة والزعيق، إضافة إلى أن المخرجة لم تُنصب نفسها قاضياً وجلاداً، بل تركت للمتلقي الحكم على الشخصيات، بمن فيهم الأب والأم، وتركت للصورة والحوار، والأغنية إذا لزم الأمر، مهمة توصيل المعنى من دون إطالة أو ثرثرة، وربما لهذا السبب حجز له مكاناً في مسابقة "آفاق" بالدورة 79 لمهرجان فينيسيا؛ ففي مشهد طرد البطل «علي» ليُدخن في الحمام تقع عيناه على مرآة حجرة «سارة» فينصرف عنها بسرعة، وكأنه يُحدث نفسه :"ما الذي فعلته بنفسي ؟"، وتحتل القطط جانباً رئيساً من الصورة؛ سواء في حجرة «سارة»؛ عندما يبدو قطها وكأنه يتأمل ما يدور بينها و«عالية»، أو مشهد «علي» في الحمام بينما مواء القطط المُثارة جنسيًا يعلو في منور العمارة، وكأنها لسان حاله. ومثلما اختارت المخرجة أغنية المطربة سميرة سعيد " Mon Cheri"، التي تقول كلماتها :"انت وأي حد غيرك انت نو"، للتعبير عن عاطفة «علي» تجاه «سارة»، تختتم المخرجة الفيلم بالأغنية، التي كتبت كلماتها ولحنتها وغنتها لوكا، وتقول كلماتها : "ستي قالت لي : البنات بيلبسوا فساتين.. وامي قالت لي : البنات ما يلعبوش في الطين .. وخالتي اللي ترتدي الخمار قالت لي : غني براحتك بس حتروحي النار .. بس أبويا ماقاليش .. فأنا ح أعمل الصح واشربحشيش .. أوعي مرة تباتي بره أو تتاخري في مرة أوعي لا البواب يشوفك وماتتجوزيش !"؛ فالأغنية تكاد تنطق بمغزى، ورسالة، الفيلم، ودعوته إلى التمرد، ورفض الوصاية، وسياسة الإملاء والإذعان وقائمة المحظورات المفروضة على البنات !
هكذا قالت كوثر يونس في 16 دقيقة ونصف كل ما عندها؛ عبر فيلم توافرت له كل عناصر المتعة والتشويق والتوتر، رغم الوحدة المكانية (حجرة سارة)، والوحدة الزمانية (ست ساعات)، والتصوير الذي لا تشعرأن المكان خنقه أو حجمه (مدير التصويرسيف الدين خالد) والديكور المٌعبر عن طبقة البطلة (إشراف فني وديكور إيمان العلبي) والماكياج المُتقن، الذي لعب دوراً محورياً (مارينا أسامة) وتصميم الأزياء المناسبة لكل شخصية؛ خصوصاً «سارة» "المسترجلة"( يارا سميح منسي)، ويظل المونتاج (خالد مرعي) والإنتاج (ساندرو كنعان) بمثابة علامتين مميزتين في الفيلم، سواء لبصمة الأول، التي ظهرت بوضوح على تماسك إيقاع الفيلم، أو التوظيف الصحيح للميزانية من دون بهرجة أو إهداربواسطة الثاني.
أما المخرجة الشابة كوثر يونس فتستحق تحية خاصة كونها لم تكتف بالصدمة الجميلة التي قدمتها لنا في «صاحبتي»، بل لأنها قدمت لنا اكتشافين مهمين هما : مارك حجار وإلهام صفي الدين سيمثلان إضافة كبيرة، في حال نجحنا في استثمار موهبتيهما .
التعليقات