من يومين احتجت لعمل أشعة مقطعية على العينين، واستشارة الطبيب بعد تسلم الأشعة.
أخذت أربع ساعات ونصف في انتظار قاتل نصفهم قبل الأشعة والنصف الآخر بعدها لاستلام التقرير.
أكثر من نصف يوم من عمري جلست انتظر في رتابة وملل قاتل، حتى اعياني جسدي من كثرة الجلوس وعدم الحركة أو الانشغال بما هو مفيد.
بقيت أراقب في صمت كعادتي، أحب مراقبة سلوك البشر وليس مراقبة حديثهم.
وجدت الجميع يعمل خلية نحل كل منهم يحمل دنياه في قلبه، يجتهد قدر استطاعته، يستوعب النفوس المتململة والمتوجعة بصبر ودأب.
ثم أخذت أوجاع ظهري وأشعتي ذاهبة للطبيب، وجدت العيادة ممتلئة عن آخرها وامامي ٢٥ دور، فانفجرت ضاحكة.
هنا توقفت! هل أغضب، أنفجر، أعود في يوم آخر، أم أفعل شيء ما مختلف.
بدأت أتساءل مستشفيات ممتلئة عن آخرها، عيادات تضج بالمرضى، أسر تتحرك من أجل شخص واحد.
تلك الأم العجوز أتت مع ابنتها المتململة، لم تتحدث إليها الفتاة بأكثر من بضع كلمات قليلة لثلاث ساعات متصلة.
كرهت سلوك الفتاة التي لم تشتري خاطر أُمها وجلست على هاتفها المحمول تاركة إياها يعتصرها ألم الجلوس ورتابة اليوم ومخاوف المرض. جاءت معها كالظل وغادرت كالظل.
ها هي امرأة أخرى تناهز الثمانين، جاءت مع إبنها وابنتها وأختها، يبدو أنهم يحملون لأمهم الكثير والكثير من أدب الولاء والانتماء.
يحاربون بكل الطرق لتدخل والدتهم للفحص، وما أن انتهت انقسموا لفريقين النصف ذهب بها إلى المنزل، والنصف الآخر ينتظر مثلي التقرير الذي لابد أنه يأتي من عالم مواز.
يطل البِر خلف مواطن الألم، يبزغ الأصل في النفوس التي ارتوت وشبعت محبة وأمن وانتماء.
يتوجب علينا أن نَبِّر أبنائنا قبل أن ننتظر أن يَبِّرونا، وقد لا يكتب لنا العمر لنحصد هذا البر، لكن بالقطع ثمارهم ستطرح على آخرتنا فجر يضيء لنا مرورنا على الصراط.
رجل آخر سبعيني يبدو عليه علامات الرقي والاناقة، جلس يأكل أوراق كتابه. انشغل بما أحَب، بما مارسه في دنياه، تراه وكأنه يسبح في عالم آخر.
تجتهد عمرك، تسعى، تُحرم الكثير من اللذات والمسرات، يتغير كيانك بأكمله من أجل أن تستبدل مساوئك بحسنات، من أجل أن تبقى أقرب للحق واليسر والصواب، من أجل أن تترك لأبناءك إرث من المبادئ والمرور المشرف في الحياة.
حسب ما رأيت اليوم، لابد أن الأمر يستحق.
أما أنا فقد رأيت سنوات من الجمال في عيادة طبيب العيون.
زال الملل، اختفى الوجع، ذهب ما كنت أشعر به من ضيق من فرط جمال بعض الصور المشرقة.
أُحِب أصحاب القلوب الرقيقة، أحب من يشعر ويعرف كيف ومتى يستخدم قلبه، أقدر البر وأحترم صاحبه فهو ميراثه الحلو بجانب الأحياء.
القاسم المشترك الذي وجدته عند أصحاب القلوب الجميلة أنهم كانوا جميعًا يتحدثون إلى بعضهم البعض.
نعم لم ينقطع حديثهم لساعات بنَهَم، كانوا جسدًا بلا ظل، حاضرين بحب.
الحب هو الشِرك الرحيم الذي تخرج منه أقوى وأكثر ثباتًا. الحب هو الأمل ونافذة البقاء وعافية الاستمرار.
الحب أن تبقى بجميل الحضور واكتماله. محبة الأبوين فطرة الله على الأرض، أما بر الأبناء هو انعكاس لأناقة حضور الأبوين في حياة أبنائهم، يوهب بجمال!
لا يكفي أن يبقى جسدك بجوار من رافق دنياك، يتوجب عليك جعل هذا الجوار حيّ يسعى إلى الفلاح، فكل عطايا الدنيا تأتيك وقت أن تكون هذا الشخص الذي يعرف السند الجميل، الذي يسعى ويحارب للبقاء على النُسك، كَيِّس، لَبِق، مُتَوَقِّد الروح.
نحن لا نحتاج جِوار الظل، فالبقاء الآمن لحُلْو المُعَاشَرَة، طَيب النَّفس، مانح الوداد، من لا يكتب البِر على عجل.
صلوا تحت أقدام آبائكم، فتلك الصلاة تحيينا.
التعليقات