تتقدم المجتمعات حينما تسود فيها ثقافة تقدير العطاء، وتكريم كل من ترك بصمة واضحة في نهضتها. هذا التقدير لا يعد فقط رداً لجميل هؤلاء واعترافاً بدورهم الرائد، وإنما يمثل أيضاً استنهاضاً للهمم وتحفيزاً للآخرين على التفاني في العمل وترسخا لتقدير قيم العطاء.
وقد توارثنا في هذا السياق عادة قديمة وهي أننا نتغافل عن تكريم الكثيرين الذين ينجزون أعمالا وطنية او إنسانية كبيرة ولا نتذكر استحقاقهم لهذا التقدير إلا بعد رحيلهم، وقد يقتصر الأمر في بعض الأحيان على مجرد ذكر محاسنهم خلال رثائهم، او بشكل عرضي خلال احتفال او مناسبة على علاقة بذلك الراحل، ولكن في أحيان كثيرة قد لاترد كلمة التكريم لدى البعض إلى مقترنة بالموت في إطار المقولة الشهيرة (تكريم الميت دفنه) ليكون هذا التكريم خاتمة لدفن أعماله الجليلة خلال حياته مع جسده عند وفاته!!
ولسنوات طويلة استمر هذا المسلك، إلى أن ظهرت أخيرا بعض المبادرات التي تمثل خطورة الى الأمام في ثقافة التكريم، أحدثها مشروع) عاش هنا) الذي يستهدف توثيق المباني والأماكن التي عاش فيها فنانون أو كتاب أو أدباء أو شخصيات ساهمت في إثراء الحركة الثقافية والفنية عبر تاريخ مصر الحديث.
نطمح إلى أن نرتقى بهذا التوجه بحيث يلمس الإنسان صدى افعاله الطيب في حياته. تمنيت ان يحدث ذلك مع شخصيات عديدة قدمت الكثير لمجتمعها ووطنها ورحت عن دنيانا خلال الفترة الأخيرة، مثل رجل الأعمال محمود العربي وطبيب الغلابة محمد مشالي والدكتور هاني رسلان مستشار مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، وخبير الشئون الافريقية الذي توفي خلال الأيام القليلة الماضية، تاركا فراغنا إنسانيا وعلميا وفكريا كبيرا، فقد دافع عن العديد من قضايا الوطن عبر مختلف المنصات العلمية والإعلامية متسلحا بحس وطني كبير وخبرة طويلة ومعرفة علمية عميقة. وبذل كل ما في وسعه شارحا وموعيا لمختلف ابعاد قضية سد النهضة متحديا آلام مرضه. فضلا عن عشقه الكبير لأبناء الوادي في السودان الشقيق وحرصه على رصد وتحليل قضاياه بخاصه علاقته بأشقائه في شمال الوادي، حيث أسس وحدة دراسات السودان وحوض النيل بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
ويعزز ذلك أن هذا المطلب عبر عنه الكثيرون من أبناء الوطن المخلصين خلال تنافسهم – عبر منصات التواصل الاجتماعي- على إبراز سيرته الحسنة وتفانيه في عمله وحبه لوطنه واخلاصه في الدفاع عن قضاياه.
هذا العشق لوطنه الكبير رافقه أيضا في وطنه الصغير حيث استطاع بعلاقته الطيبة ان يجذب الكثيرين من رموز النخبة الثقافية الى مسقط رأسه ويجعلهم تشاركون اهله قريته احلامهم الكبيرة حينما حول مهرجان دندرة إلى عرس اجتماعي وثقافي وتنموي في الصعيد.
وهكذا عمل هاني رسلان في صمت، على مستويات عديده وعاش زاهدا في المناصب، ولا شك أن هناك كثيرين مثله في مختلف ارجاء الدولة يعطون بلا حساب وبدون توقعات لأي مقابل سوى إرضاء الضمير وتقديم كل ما في وسعهم لخدمة بلدهم، هؤلاء لا يهتمون بمنصات والتكريم ولا مؤسسات الجوائز، ولكن على الدولة والمجتمع ان يبادر بتكريمهم، واذا كان قد فاتنا فعل ذلك في حياتهم فلا أقل ان نرد لهم حقوقهم بعد رحيلهم.
ومن هنا نناشد الدولة المصرية بكافة مؤسساتها تكريم الرمز الوطني الكبير الدكتور هاني_رسلان . بل نطمح إلى ما هو أكثر بحيث لاتقتصر هذه الدعوة على شخص معين، وإنما تصبح نهجا في ترسيخ ثقافة التكريم، لذا ندعو الى تأسيس هيئة تعني بتكريم مثل هذه الشخصيات التي تقدم خدمات وجهود تتجاوز مهامها الوظيفية العادية لخدمة مجتمعاها ووطنها، بحيث تشمل مختلف المجالات بغض النظر عن الوظيفة او التخصص أو المكان، كل بحسب طاقته ومجاله فقد يكون المكرم أستاذا جامعيا او موظفا او عاملا عاديا او ربة منزل ،فالمعيار هنا هو خدمة المجتمع والوطن طوعا.
ولدينا في محيطنا العربي مؤسسات مشابهة مثل (جائزة أبو ظبي) التي تمنح بناءً على الفعل الخيّر الذي يقدمه الشخص لإمارة أبوظبي بغض النظر عن الجنسية. وتستهدف تكريم الذين أسهموا بتفانيهم في خدمة الإمارة لتكون أعمالهم مصدر إلهام يشجع الآخرين على القيام بأعمال نافعة تخدم المجتمع. نتمنى ان يجد هذا الاقتراح أذانا صاغية.
التعليقات